العدد 6 - محلي | ||||||||||||||
قبل أشهر، عندما كانت نوال تذهب للتسوق، تتناول علب اللبن واللبنة والجبنة عن رفوف السوبر ماركت وتضعها ببساطة في سلة المشتريات، مطمئنة إلى أن الألبان التي تشكل طعاماً يومياً لعائلتها «مصنوعة من الحليب البقري الطازج 100 في المئة» كما هو مدوّن على عبواتها. لكنها الآن باتت تتشكك في صحّة هذه البيانات، فهي مثل كثيرين تتابع تفاعلات الأزمة بين مزارعي الأبقار ومصانع ألبان كبرى في البلاد، تلك التي وجّه فيها مزارعو أبقار اتهامات لأصحاب مصانع باستخدام الحليب المجفف رخيص الثمن في تصنيع منتجاتهم عوضاً عن الحليب الطازج. المزارعون يقولون إن انخفاض طلب الكثير من المصانع على الحليب الطازج الذي لم يترافق مع انخفاض في حجم إنتاجها، يؤكد ذلك. ويضرب الناطق الرسمي لأصحاب مزارع الأبقار حسين مسلم، مثالاً على ذلك، أنّ مصانع ألبان في منطقة الضليل والخالدية كانت تستهلك في العادة 40 طناً من الحليب الطازج، وهي تنتج الكميات نفسها الآن، لكنها لا تشتري من المزارعين أكثر من 10 طن في أحسن الأحوال. يتجه أصحاب المصانع إلى هذا الخيار، لرُخْص ثمن الحليب المجفف، بحسب رئيس جمعية مربي الأبقار أحمد الخطيب، إذ لا تتجاوز تكلفة كيلو الحليب المصنّع من الحليب المجفف أكثر من عشرين قرشاً، في حين أن تكلفة إنتاج كيلو من الحليب الطازج تراوح بين 38 و40 قرشاً. عزوف مصانع ألبان كبيرة وصغيرة عن شراء الحليب الطازج، أصبح يشكل تهديداً جدياً لقطاع مزارع الأبقار المكون من 500 مزرعة، تشتمل على نحو 65 ألف رأس، وتنتج يومياً 300-350 طناً من الحليب يومياً. المشكلة كما يقول مسلّم، تفاقمت خلال العام الجاري، عندما أُغرقت الأسواق بالحليب المجفف المخصص للتصنيع، بعد أن كان هذا الحليب يُستورد بكميات محسوبة وتحت رقابة مشددة، للتأكد من أنه يُستخدم للأغراض التي استُورد من أجلها، وهي الحلويات والآيس كريم، إذ يُمنع قانونياً استخدامه لغير هذه الأغراض. الإحصائيات تُثبت حدوث زيادة على مستوردات الحليب المجفّف المخصص للتصنيع. وفق أرقام حصلت عليها ے من دائرة الإحصاءات العامة، بلغت كميّة الحليب المستوردة خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الجاري 1100 طنّ تقريباً، مقابل 871 طنّ تقريبا في العام 2008. وزارة الصناعة والتجارة تشدّد على أنها تراقب الكميات الداخلة إلى المملكة، وتراقب أيضاً استخداماتها. مدير المخزون والتجارة في الوزارة عماد الطراونة، يقول إن الوزارة تطبق بصرامة ما يسمى «معادلة التصنيع» التي يتم من خلالها ربط الكمية المسموح باستيرادها لكل مصنّع بالطاقة الإنتاجية لمصنعه، وعندما تتم الموافقة على كمية محددة فإنها لا تسلَّم له دفعة واحدة، بل يتم تقسيمها إلى دفعات على مدار العام لكن هذا يبدو غير مقنع لمسلّم الذي يتساءل عن سرّ عزوف مصانع كثيرة عن شراء الحليب الطازج، مقابل وجود كميات كبيرة من الحليب المجفف المخصص للتصنيع في الأسواق، لدرجة أنها «تباع في سوق الحرامية في الزرقاء، وصاحب محل خلويات في الضليل كان يبيعها في محله»، بحسب ما أكد لـ ے. فتْح الباب لاستيراد الحليب المجفف، تَرافقَ كما يقول الخطيب، مع غياب الرقابة على استخدامه، لدرجة أن الغش صار «بشكل علنيّ، والمصانع التي تصنّع منتجاتها من الحليب المجفف وتكتب على العبوة أنها مصنوعة من الحليب الطازج معروفة للجميع». لكن مدير التنمية الصناعية في وزارة الصناعة والتجارة لؤي سحويل، ينفي تماماً منْح مصانع الألبان رخص استيراد حليب مجفف، ويقول إن التراخيص لا تُمنح إلا لمصانع الحلويات والآيس كريم والجبنة الفيتا. يرد على ذلك مزارعون يؤكدون أن كثيراً من مصنّعي الألبان يُنتجون أيضاً الجبنة والآيس كريم، وأن الأمور كانت مضبوطة عندما كان ترخيص الاستيراد يشترط استخدام الحليب المجفف في معامل منفصلة. مؤخراً تمّ السماح بتصنيع الحليب المجفف في مصانع مخصصة للحليب الطازج، لكن ضمن خطوط إنتاج منفصلة، وكما يقول الخطيب فإن «من يعرف كيف تسير الأمور في مصانع الألبان، يدرك أن هذه فرصة كبيرة للتلاعب». في السياق نفسه، ينبه مسلم إلى قيام بعض أصحاب المصانع بإسالة الحليب المجفف خارج المصنع، لإخفاء الأمر، حتى على العمال داخل المصنع. مؤسسة المواصفات والمقاييس تقرّ بوجود تجاوزات، لكنها تؤكد أنها تقوم بدورها الرقابي. ووفق مديرة الأداء في المؤسسة رنا الكيلاني، نُظّمت خمس حملات تفتيشية خلال العام الجاري، أسفر عنها إتلاف 7 أطنان من الألبان، وإغلاق مصنعين، وتوجيه إنذارات نهائية لسبعة مصانع، كما تم تحويل خمسة مصانع إلى المدعي العام، لاتخاذ الإجراءات القانونية. من ناحية أخرى، فإن مصنّعي ألبان يحمّلون المزارعين قسطاً من المسؤولية؛ عدنان أبو الحاج، صاحب مصنع للألبان، يقول إن التحوّل باتجاه الحليب المجفّف بدأ في آب/أغسطس من العام 2008، إثر قيام المزارعين برفع أسعارهم من 35 إلى 48 قرشاً دفعة واحدة، متذرّعين بارتفاع أسعار الأعلاف. لكن الزيادة في سعر الحليب لم تكن بحسب أبو الحاج متناسبة مع الزيادة في سعر العلف، وهو يعتقد من ناحية أخرى أن المزارعين ليسوا وحدهم الخاسر في قضية الحليب المجفّف، فمصنّعو الألبان الذين امتنعوا عن استخدام الحليب المجفّف خسروا أيضاً. «خلال العام الجاري وحده، انخفضت مبيعات مصْنَعي من اللبنة إلى النصف، بسبب إغراق السوق بما يسمّى اللبنة التركية المصنّعة من الحليب المجفّف، وتباع بأقل من نصف سعر اللبنة الطبيعية». المزارعون بدورهم يحمّلون وزارة الزراعة المسؤولية ويطالبونها بتشديد الرقابة، والمفارقة أنه أمر تطالب به وزارة الزراعة أيضاً. فمساعد الأمين العام لشؤون الثروة الحيوانية ناصر الحوامدة يشير إلى عدم إمكانية منع استيراد الحليب المجفف، لأن منتجات معينة لا يمكن تصنيعها إلا منه، وينبّه إلى أن وزارة الزراعة ليست هي الجهة الرقابية الوحيدة. «الوزارة عضوٌ في لجان رقابية تضم مؤسسات أخرى معنية مثل الغذاء والدواء ومؤسسة المواصفات والمقاييس»، يقول الحوامدة، مقرّاً أن الأمر «لم يصل مرحلة الكمال، ونحن فعلاً بحاجة إلى مزيد من الرقابة». ما يمكن عدّه ثغرة كبيرة في القانون وسحْباً للبساط من تحت وزارة الزراعة، هو إعطاء وزارة الصناعة والتجارة حق منح رخص استيراد الحليب المجفف دون التنسيق مع «الزراعة»، وهو أمر، يقول نقيب المهندسين الزراعيين عبد الهادي الفلاحات، إنه يشكل خللاً كبيراً، لأن «وزارة الزراعة هي مظلة المزارعين، وهي المسؤولة عن حماية هذا القطاع، ويجب عليها أن تطالب بأن تكون شريكاً رئيسياً في هذه المسألة». «الزراعة» بحسب مسؤولين فيها، طالبت بهذا الأمر فعلاً. إذ يشير مدير مديرية الترخيص عزت العجالين، إلى اجتماع عُقد في أيلول/سبتمبر 2009، ضمّ ممثلين عن وزارتي الزراعة والصناعة والتجارة، اقترحت فيه «الزراعة» تشكيل لجنة مشتركة من الوزارتين للكشف على المصانع التي تتقدم بطلبات استيراد حليب مجفف، لمعرفة طاقتها الإنتاجية، واحتساب الكمية المسموح باستيرادها بناء على ذلك، لكن «الصناعة» كما يقول العجالين رفضت ذلك، وهو أمر نفاه سحويل الذي أكّد أن الوزارة تقوم بـ«التنسيق المطلوب» مع جميع الجهات المعنية. تصعيدات المزارعين وتهديدهم بأن يسكبوا فائض إنتاج مزارعهم في الشوارع، دفعَ وزارة الزراعة في محاولة لحلّ المشكلة، إلى الإعلان مؤخراً عن وجود توجه نحو فرض 16 في المئة ضريبة مبيعات على الحليب المجفف، لتشجيع المصنّعين على التوجه نحو الحليب الطازج. وهو أمرٌ استغربه مزارعون، فعدا أن ضريبة المبيعات هذه سيتحمّلها المستهلك في النهاية كما يرى الخطيب، فإنها بهذه النسبة لن تشكّل رادعاً عن استخدام الحليب المجفف الذي سيظل الخيار الأول لكثير من المصنّعين، لما يحققه من أرباح فاحشة. «المطلوب هو تفعيل القرار القاضي بمنع استخدام الحليب المجفف إلا لأغراضه المحددة، وتشديد الرقابة على المصانع، أو على الأقل إجبار المصانع التي تستخدمه على كتابة ذلك صراحة على العبوات، وليُتْرَك الأمر بعدها للمستهلك». شكوى المزارعين دفع مصانع كبرى للألبان إلى شراء الفائض، بحسب تقارير صحفية. لكن الخطيب وصف تلك التقارير بـ«الدعائية»، يؤيده في ذلك مسلّم، الذي قال إن ما نشرته الصحف أشاع إيحاء بأن المصانع كلها تضامنت لشراء الفائض كله، وفي الحقيقة فإن شركة واحدة، «حمودة، هي التي قامت بالشراء، وأن «مجموع ما تم شراؤه كان 25 طناً فقط هي حاجتها، وتمّ احتساب الكيلو بـ35 قرشاً». شراء الحليب بسعر يقلّ عن التكلفة، ممارسة معتادة لمصانع الألبان الكبرى، فالحاج عمر يقول إن الشركة تحدد السعر، ولا يمتلك المزارع إلا الرضوخ. «لا مجال لتخزين الحليب، ولا مجال لتوقيف الإنتاج، ماذا نفعل غير أن نرضخ لهم؟». وإضافة إلى تدني السعر الذي تحدده الشركة، ليس هناك مواظبة على شراء الحليب الطازج، لذا كثيراً ما يحدث أن يضطر المزارع إلى بيعه لاحقاُ إلى «صيّادي الأسعار»، وهم أشخاص يشترونه «بأسعار محروقة» تصل أحياناً إلى 25 قرشا للكيلو، ويبيعونه إلى معامل ألبان صغيرة. لكن أبو الحاج يشكّك في الأسعار التي يطرحها المزارعون، ويقول إن التكلفة الحقيقية لكيلو الحليب تراوح بين 28-30 قرشاً. «إذا زادت عن ذلك، فهناك خلل في إدارة المزرعة، وتصبح هذه مسؤولية المزارع». وهو يحتّج على تصوير مصانع الألبان بوصفها المتحكّمة بالأسعار، ويقول إن السوق هي التي تحدّد الجهة التي تفرض أسعارها، والدليل ما كان يقوم به مزارعون من رفع الأسعار في كلّ رمضان: «عندما كان هناك إقبال على الحليب الطازج كان المزارعون يفرضون أسعارهم، الآن ومع دخول منتجات الحليب المجفّف فإنهم ببساطة لم يعودوا أصحاب اليد العليا». |
|
|||||||||||||