العدد 6 - محلي | ||||||||||||||
خلال أسبوع واحد، توفي مواطنان على إثر حادثتَين تسبّبَ فيهما رجال أمن عام، ما أدى إلى اندلاع أعمال شغب، وانتهت كلتاهما بعطوة عشائرية وتحقيق مفتوح، إلى أجل غير مسمى. القاسم المشترك في ذلك كله، أن «الدولة»، ممثلة بالأمن العام، بدت خصماً أمام «العشيرة». كانت البلاد شهدت في السابق أحداثاً من هذا النوع، لكن ازدياد وتيرة العنف الجماعي في صيف 2009، وإلحاق الأذى الجسدي بمواطنين على يد منتسبي الأمن العام، أعاد طرح هذه القضية الإشكالية مجدداً. فقد كانت هناك محاولات، لوضع حد للملاحقة العشائرية للموظفين العامين المخوّلين بحمل السلاح، وأفراد الجيش والأمن العام الذين تقتضي ظروف عملهم وواجبهم الرسمي استعمال السلاح، بحسب ما أفاد إعلامي طلب عدم نشر اسمه، كان حضر اجتماعاً لإحدى لجان المجلس الاقتصادي والاجتماعي، عُقد مؤخراً. ففي ذلك الاجتماع، تلا رئيس المجلس عبد الإله الخطيب على مسامع المشاركين، نصَّ وثيقة تم التوقيع عليها من شيوخ ووجهاء عشائر، في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الفائت، تكشف عن هذا التوجُّه الذي يبدو أنه بُتر قبل تكريسه. في الحادثة الأولى، توفي المواطن فخري عناني، 47 عاماً، يوم السبت 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2009، بعد اعتداء ضابط أمن عليه بالهراوة في معان. وقد وقّعت عشيرة رجل الأمن الذي يُشتبه بتسببه في الاعتداء عطوةً أمنية، مع ذوي المتوفى. تبع ذلك توقيع صك عطوة اعتراف لمدة شهرين، تضمّن المطالبة بتسريع تحديد هوية الجاني و«خَمْسته في الدم». العطوتان سبقتهما أحداثُ شغب انطلقت في شوارع معان، أُحرق خلالها كشك أمني تابع لمديرية الشرطة، وأُطلقت عيارات نارية باتجاه أفراد أمن، وأُحرقت إطارات في أحد الشوارع الرئيسية. قبل أيام من حادثة مقتل عناني، دُفن الشاب صادم السعود، 20 عاماً، الاثنين 8 تشرين الثاني/نوفمبر، في مقبرة سحاب، بعد أن «تعهد وزير الداخلية أمام وزير التعليم العالي الأسبق، راتب السعود، بأخذ عطوة عشائرية ومحاسبة رجال الأمن العام الذين تسببوا بوفاة صادم»، وفقاً للناطق باسم رابطة أهالي حي الطفايلة، يحيى السعود. كان السعود أُدخل إلى المستشفى في حالة موت دماغي، بعد تعرضه للضرب بكعب مسدس على رأسه على أيدي رجُلَي بحث جنائي، على خلفية مشاجرة وقعت بين أصحاب بسطات في جبل الحسين. وفاة السعود، أدت إلى اندلاع أحداث شغب في حي الطفايلة بعمّان. وبحسب تصريحات الناطق الإعلامي باسم المديرية العامة لقوات الدرك، أحمد أبو حماد، «قامت مجموعة من مثيري الشغب بالاعتداء على السيارات المارة وتكسيرها، وإشعال النيران في الشارع العام، وإلقاء الزجاجات الحارقة باتجاه الكوخ الأمني». وقد تدخلت قوات الدرك «لإعادة الأمن والنظام في المكان»، وأصيب عدد من أفرادها بنيران أطلقها «مثيرو الشغب»، فلجأت إلى استخدام الغاز المسيل للدموع لتفريقهم، حفاظاً على الممتلكات العامة والخاصة. في أثناء ذلك، شهدت باحة مركز الطب الشرعي في مستشفى البشير، إطلاق عيار ناري واحد لتفريق أكثر من 200 مواطن من أقارب صادم السعود، الذي نُقل إلى المركز بعد إعلان وفاته، لتشريح الجثة وبيان سبب الوفاة. من جهتها، دانَت رابطة أهالي حي الطفايلة أحداثَ الشغب، وأعلنت عن استعدادها «لتحمل الخسائر الناتجة عن أعمال الحرق والتكسير التي جرت أثناء المصادمات»، في الوقت الذي أكدت فيه تمسكها بحقوقها «تجاه المتسببين في قتل صادم السعود». تلكما الحادثتَين اللتين تسببتا بوفاة مواطنَين، تذكّران بأحداث مشابهة وقعت العام 2008. إذ توفي الشاب عامر النقروز، 25 عاماً، في كانون الأول/ديسمبر من ذلك العام، في مركز أمن البيادر، وقالت عائلته إنه توفي إثر تعرضه للتعذيب، وليس انتحاراً كما جاء في بيان للأمن العام. وفي العام نفسه، توفي شابان قرب مكب الغباوي خلال ملاحقة رجال الأمن العام لهما. وجاء في بيان الأمن العام، أن سائق السيارة لم يمتثل لإشارة الدورية بالتوقف، فتمّت متابعته وحدثَ إطلاق أعيرة نارية بالهواء بقصد إخافة الشابين وإجبارهما على الوقوف، وبعد مطاردة طويلة انقلبت السيارة بعد أن أصيبا بأعيرة نارية، وعندها اعترف الأمن العام بقتلهما بالخطأ. وزير الداخلية صرّح لوسائل إعلام مختلفة، أن معالجة مشكلات من هذا النوع، تتم بتطبيق القانون والنظام، وأن «العطوة والصلح خطوط جانبية يسلكها بعض المعنيين بحل المشكلة، وليس على حساب القانون والنظام والمحاكمة التي هي السبيل الوحيد لفرض النظام وتكريس الأمن وهيبة الدولة». واتخذ الوزير في الوقت نفسه، موقفاً يُبقي للعشائرية دوراً كبيراً في الحياة العامة، إذ يرى أن العشائر «أسهمت في إنهاء مثل هذه المشكلات، وساعدت رجال الأمن في السيطرة على الموقف»، وأن «العادات والأعراف العشائرية لا تسمح بمثل هذه السلوكيات». لكن لجوء الأمن العام إلى العطوة العشائرية تمهيداً للصلح، بالنسبة للناشط الحقوقي المحامي طالب السقاف، يأتي في إطار «السعي لشخصنة الاعتداء الذي وقع على المواطن وعزله عن سياقه المؤسسي»، وهي «سابقة ينبغي أن لا تتكرر» بحسب تعبيره. يقول السقاف إن الأمن العام، بوصفه مكلفاً بتطبيق القانون، «من الأَولى أن يتخذ إجراءات قضائية حقيقية، مثل التحقيق في الحادثة، وإحالة مرتكب الجرم إلى القضاء المختص لينال عقابه». أما العطوة، فهي كما يرى «نافذة واسعة لإمكانية الإفلات من العقاب، وهو ما لا نحتاجه في جهود مناهضة التعذيب وسوء المعاملة على المستوى الوطني». على المستوى الاجتماعي، يلفت السقاف إلى التأثير السلبي للعطوة الأمنية، لكونها «تكرس معتقدات سائدة عند المواطنين بأن رجال الأمن العام يميزون بين المواطنين في المعاملة، تبعاً لمركزهم الاجتماعي والعشائري أو الاقتصادي». ويضيف: «لجوء جهات معنية بتحقيق المساواة بين المواطنين وتنفيذ قرارات العدالة، إلى ممارسات تقوم على التمييز، يُعدّ من دروب سوء المعاملة التي لا يجوز أن تحدث». عضو هيئة تدريس في الجامعة الأردنية طلب عدم نشر اسمه، ذهب أبعد من السقاف، واصفاً «العطوة الأمنية» بأنها «تسحب البساط من تحت أقدام الدولة، وتحوّل جهاز الأمن العام فعلياً إلى عشيرة أخرى من العشائر الأردنية». أثناء الأحداث الأخيرة، واصلَ وزير الداخلية تصريحاته التي سبق أن كررها على إثر أحداث عنف جماعي شهدتها مناطق مختلفة في البلاد منذ مطلع الصيف، وبدا فيها وكأنه يتجاهل الأمر الواقع، أو يرفض الإقرار به. فقد علّق على حادثتَي معان وحي الطفايلة، بقوله إنهما «من الأمور العادية التي كانت تحدث دوماً، ولأسباب لا يمكن ربطها بعضها ببعض، وهي مجموعة من التصرفات الفردية التي قد تتسع في بعض الأحيان لتشمل بعض أفراد العائلة الواحدة أو بعض أفراد الحي الواحد». أما سلوك منتسبي جهاز الأمن العام، الذين ألحقوا أذى جسدياً بمواطنين، وفي بعض الحالات تسببوا في وفاتهم، فيبرره القاضي، بقوله: «في حالات كثيرة، وتحت ظروف معينة، يتعرض رجال الأمن العام إلى الضغط وإلى مواجهة مع أشخاص من ذوي السوابق، ويحدث اشتباك، ما يؤدي في بعض الأحيان إلى سقوط ضحايا من الجانبين، وأحياناً يكون الخطأ غير المقصود هو السبب، بخاصة عندما يكون الضحية بريئاً». بيد أنه يعود ليؤكد أن أخطاء أفراد الأمن العام لا تمر دون محاسبة أو عقاب، بل يتلقى مرتكبوها أقسى العقوبات، ويخضعون لإجراءات تحقيق ومحاكمة قد تنتهي بالسجن. يقول في هذا السياق: «هناك توجيهات دائمة ومشددة من الأمن العام للتعامل مع المواطن بأسلوب حضاري، وعدم اللجوء إلى القوة أو القوة المفرطة، وعدم التصرف إلا ضمن التعليمات المطلوبة». إلا أن عقوبات محكمة الشرطة، بالنسبة لرئيسة وحدة العدالة الجنائية في المركز الوطني لحقوق الإنسان، المحامية نسرين زريقات، «قد لا تكون رادعة»، وهي بحاجة إلى «مراجعة لبعض الأحكام التي تصدر، فلو كانت الأحكام رادعة بالشكل المطلوب لما تكررت هذه التصرفات خلال الآونة الأخيرة». منظمة العفو الدولية، تذهب إلى أبعد من ذلك. ففي بيان أصدرته، 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2009، اتهمت المنظمةُ محاكمَ الشرطة الأردنية بأنها «ليست مستقلة ولا شفافة بما فيه الكفاية»، وأن «قراراتها لا تُنشر على الملأ، كما أن جلساتها مغلقة». وعدّت المنظمة «وقوع حالتَي قتل في غضون أسبوع لَهُوَ تطوّر مقلِق للغاية». ودعت السلطات «إلى البدء ومن دون تأخير، في فتح تحقيق كامل ومستقل في مقتل رجلين في أسبوع واحد، بعد أن زُعم أنهما تعرضا للضرب على أيدي رجال شرطة». تبيح المادة 9 من قانون الأمن العام لرجال الشرطة استخدام القوة ضمن ضوابط قانونية وبالقدر اللازم، في عدد من الحالات، إذا قاوم الشخص المتهم أو المشتكى عليه رجال الشرطة وحاول الهرب أو اعتدى عليهم. مكتب المظالم وحقوق الإنسان سجّل العام الجاري 360 شكوى إدارية وجزائية مقدمة بحق رجال الأمن العام، منها 23 شكوى تتعلق بإساءة المعاملة، وتم تحويل 8 شكاوى لمحكمة الشرطة. وفي حين تُظهر إحصاءات المكتب التابع لمديرية الأمن العام، أن العام 2009 شهد انخفاضاً في عدد الشكاوى ضد رجال الأمن العام بنسبة 20 في المئة مقارنة بالعام الفائت، الذي شهد أيضاً انخفاضاً بنسبة 28 في المئة مقارنة بالعام 2007، يفيد المركز الوطني لحقوق الإنسان بأن وتيرة العنف ارتفعت منذ آب/أغسطس 2009، إذ سجل المركز 16 شكوى ضد رجال الأمن العام ادّعى فيها أصحابها تعرضهم للضرب وإساءة المعاملة. الانفراج السياسي وتعدد مصادر الإعلام وتنوعها، ولّدَ حالةً تَصدّرت فيها هذه الأحداث، بالصوت والصورة والكلمة، حواراتِ المجتمع، واستحوذت على اهتمام الشارع على مدار الساعة. ويفسّر الكاتب الصحفي أحمد أبو خليل هذا التحوّل بقوله: «في السابق، كانت هناك تعليمات واضحة لنشر الرواية الرسمية. الآن أصبح ممكناً نشر رواية أخرى من أهل المعتدى عليه. كما أن الإعلام الجديد دفع الإعلام التقليدي للتطرق إلى هذه الموضوعات». وهو يرى أن هناك تغيّراً طرأ على صعيد الثقافة العامة حول علاقة رجل الأمن بالمواطن. إذ أصبح المواطن مدركاً لحقه في أن يشتكي على رجل الأمن، وممارساً له أيضاً. يقول: «في السابق كانت فكرة الشكوى ضد رجل الأمن أو محاسبته غير موجودة. وحتى قبل سنوات قليلة كنا نسمع بوفاة نزيل في مركز أمن ويصدر تقرير ويُنشر وتنتهي القصة هنا». لكن هذا التغير، لا يعكس بالضرورة حالة وعي، وفقاً لأبو خليل. ففي معان، «انتهت المشكلة بمجرد معرفة الشخص المتسبب بالوفاة، أي الخصم، وبالتالي تمت تبرئة جهاز الأمن، في حين أن القضية ليست مجرد اعتداء شخص على مواطن». الوضع قبل آب/أغسطس 2009، شهد انخفاضاً في نسبة ادعاءات سوء المعاملة حتى في السجون، بحسب زريقات، التي تفسر ذلك بتطبيق مديرية الأمن العام سياسات وإجراءات، منها تحسين معاملة النزلاء، وإلحاق كوادرها بدورات تأهيلية في حقوق الإنسان. وفي هذا السياق، تدعو زريقات إلى إشراك كوادر الإدارات الأمنية بدورات تدريبية متعلّقة بحقوق الإنسان، بخاصة أثناء تطبيق القانون، مثل اتفاقية مناهضة التعذيب، ومدونة قواعد سلوك الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون. ضعف ثقافة حقوق الإنسان، مشكلةٌ لا ينفيها أستاذ علم الاجتماع موسى شتيوي، لكنه يرى أن هناك أيضاً مشكلة في الثقافة السلمية وثقافة احترام القانون. «لدينا أزمة ثقافية في هذا الموضوع لدى كل الأطراف، سواء أكانوا مواطنين أم جهات رسمية، لكن من الظلم أن نعممها، فرجال الأمن يتعاملون يومياً مع آلاف الحالات بيسر وبشكل سلمي». «ما حدث هو استخدام مفرط للقوة غير مبرر»، يقول شتيوي لـ ے. فالأجهزة الأمنية تطبق القانون من جانب، لكنها تستخدم أحياناً القوة أكثر مما يجب ومما يسمح به القانون، كما يرى شتيوي، الذي يضيف أن الناس من جهة أخرى، أصبحوا «يتجرأون ويتطاولون على رجال الأمن ويوجهون لهم الإهانات، مثل اعتداء مواطنين على موظفين في مواقع عملهم، بل إن حالات اعتداء مواطنين على جهات رسمية أكثر من حالات اعتداء رجال أمن على مواطنين». ما يثير استغراب شتيوي، أن «رجال الأمن، القيّمين على القانون واحترام حق المواطن، هم الفئة نفسها التي استخدمت أساليب غير قانونية، أو تشتمل على عنف زائد وغير مسموح به قانونياً، إلى درجة تسببت في فقدان مواطنين لحياتهم». المشكلة قائمة، كما يرى أبو خليل، سواء أكان الأمر متعلقاً بـ«قضية فردية»، أم بـ«توجيه عام للجهاز، بالتشديد على المواطنين والقسوة في التعامل معهم». ويتساءل: «ما الذي يدفع رجل أمن ليس لديه توجيهات بالقسوة، لأن يقسو على شخص، رغم أنه ليس بينهما علاقة شخصية تدفعه لذلك؟». أما إذا كانت هناك توجيهات، «فيجب أن تكون مبررة، فالدول والأجهزة لا تخفي سياساتها». ويوضح أبو خليل: «في التجربة الفعلية، يبدو جهاز الأمن قادراً على السيطرة على أعصاب المجموعة في أحداث كبرى». ويُعطي مثلاً «اعتصام الرابية» الشهير، قرب السفارة الإسرائيلية احتجاجاً على الحرب على غزة. «كان هناك أداء وُصف بأنه حرْفي ومهْني، بمعنى أنه عندما تكون هناك توجيهات بأداء مهْني، فإن رجل الأمن قادر على القيام بهذا الدور». ثمة زاوية أخرى يلفت إليها أبو خليل في أحداث معان وحي الطفايلة، هي «وصول مواطنين إلى حالة عدم ثقة بجهاز الدولة، وعدّه خصماً لهم». وهذا برأيه ناتج عن «انسحاب الدولة، وبشكل متسارع، من علاقاتها مع المجتمع، سواء في المواضيع الاجتماعية والاقتصادية أو الأمنية أو المصالح، أو حتى في الموضوع الأكبر: الكرامة الوطنية»، ما يبرر عودة أشخاص إلى العشيرة، بوصفها الدائرة التي توفر لهم حماية وشخصية وهوية وحضوراً في المجتمع. الأحداث الأخيرة التي شهدتها البلاد، تكشف عن نمط جديد يُخشى من تكريسه بالتدريج في العلاقة بين العشائر والدولة، هو النظر إلى الدولة بوصفها عشيرة هي الأخرى، ما يستدعي إعادة النظر في طبيعة هذه العلاقة، لوضع الأمور في نصابها. |
|
|||||||||||||