العدد 6 - محلي | ||||||||||||||
بعد الإعلان المفاجئ عن توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة حزب العمل يوم 13 أيلول/سبتمبر 1993، وقّع الجانبان الأردني والإسرائيلي في اليوم التالي أجندة المفاوضات بينهما، وسرّعا مسار التفاوض الثنائي، وصولاً إلى توقيع إعلان واشنطن لإنهاء حالة الحرب والعداء بين البلدين يوم 25 تموز/يوليو 1994، ثم إبرام معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية بعد ثلاثة أشهر فقط، في 26 تشرين الأول/أكتوبر. الأردن الرسمي فاجأ من جهته العالم بتسريع الخطى نحو إقامة سلام دائم، على عكس السلام البارد بين مصر وإسرائيل. وعزّزت تحركات الملك الحسين بهذا الاتجاه مكانته عند الإدارة الأميركية واليهود الأميركان والرأي العام الإسرائيلي، لكنها أفقدته شعبية في أوساط الرأي العام العربي، وسببت له إرباكات أمام الرأي العام المحلي. هذه البداية «المشجعة» بين الأردن وإسرائيل، تحوّل مسارها بعد مقتل رابين، ومجيء بنيامين نتنياهو، أحد أبرز رموز التطرف في إسرائيل إلى الحكم العام 1996. ففي عهده جرت محاولة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، على الأراضي الأردنية، ثم فتحُ نفق تحت المسجد الأقصى، ما دفع الملك الحسين إلى توجيه رسالة شديدة النبرة له على إثر ذلك، إضافةً إلى التوسع الاستيطاني وتهديده المستمر وبخاصة للجانب الفلسطيني بأنه غير ملزَم بالاتفاقيات التي لم يوقِّعها هو، بحسب أستاذ العلوم السياسية في جامعة اليرموك نظام بركات. توالت مظاهر التطرف الإسرائيلي في عهد الحكومات الإسرائيلية اللاحقة، فمن اقتحام آرييل شارون ساحةَ المسجد الأقصى، الذي فجر الانتفاضة الفلسطينية الثانية، إلى تكثيف الاستيطان، واجتياح جنين ومناطق أخرى في الضفة وغزة، وحصار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وبناء الجدار العازل ، والعدوان على غزة، ودعوة النائب في الكنيست عن حزب «إسرائيل بيتنا» أرييه ألداد، للفلسطينيين للبحث عن وطن بديل في الأردن، ومعاودة استهداف المسجد الأقصى. هذه الممارسات تضع مؤيدي عملية السلام في وضع صعب، وتشجع المزيد منهم على توجيه الانتقادات العلنية للسياسات الإسرائيلية حدَّ المطالبة بإعادة النظر بمعاهدة وادي عربة. فها هو رئيس مجلس النواب عبد الهادي المجالي، المعروف بمواقفه السياسية المحافظة، يعكس عبر تصريحاته العلنية، ما حدث من تراجع شديد على مستوى العلاقات الأردنية الإسرائيلية. فقد حذّر إسرائيل أواخر تشرين الأول/أكتوبر 2009، من مغبة تحدّي مشاعر العرب والمسلمين في استهدافها المسجد الأقصى، و«خرقها معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية التي تصادف ذكرى توقيعها الخامسة عشرة مع اعتداء إسرائيل على المقدسات الإسلامية في القدس الشريف». حتى إنّ مركزاً رصيناً يتمتع باستقلالية ومصداقية عالية، هو المركز الوطني لحقوق الإنسان، اتهم إسرائيل مطلع تشرين الثاني/نوفمبر 2009، باستنزاف مياه نهر الأردن وتلويث مجراه جراء تحويله إلى مصرف صحي يتم التخلص فيه من مخلّفات برك الأسماك والمياه العادمة للمستوطنات في الأراضي المحتلة، ما «يشكل مساساً بالحقوق المائية وتدميراً لتوازن المنظومة البيئية في منطقة وادي الأردن». وربما يتحرج هذا المركز من اتخاذ موقف كهذا في سنوات سابقة. وتعكس استطلاعات رأي أجراها مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، هذا التراجع بوضوح. ففي حين وصل مستوى التأييد لتوقيع الملك الحسين إعلان واشنطن العام 1994 إلى ما يزيد على 80 في المئة، فإن النسبة نفسها تقريباً باتت ترى بحسب استطلاع آخر أجري العام 1997، أن إسرائيل عدوة. أما أحزاب المعارضة والنقابات المهنية، فلم تعد تكتفي بمواقفها السابقة، مثل اعتصامها في مجمع النقابات المهنية في ذكرى توقيع المعاهدة، وحرق العلم الإسرائيلي، والمناداة بوقف التطبيع، والمطالبة بـ«إلغاء معاهدة وادي عربة وإغلاق السفارة الصهيونية»، بل باتت تدعو إلى «تبني خيار المقاومة بأشكالها كافة، ودعمها بكل ساحات المواجهة مع المحتلين الغاصبين». بيان صادر عن اللجنة التنفيذية لحماية الوطن ومجابهة التطبيع، التي تتشكل من ممثلين عن أحزاب المعارضة وقوى نقابية، رأى أن «المقاومة هي خط الدفاع الأول عن ديار العروبة والإسلام»، لافتاً إلى أن «التهديدات الصهيونية للدولة الأردنية ما زالت قائمة، وآخرها ادّعاء أن الأردن هو الوطن البديل للفلسطينيين». حرقنا «عظام» الوطن البديل رئيس الوفد الأردني لمفاوضات السلام مع إسرائيل ورئيس الوزراء الأسبق، عبد السلام المجالي، يعقّب على الاستفزازات الإسرائيلية بوصف الأردن وطناً بديلاً للفلسطينيين، بأن «هذا حلم يراود الإسرائيليين، بخاصة المتطرفين منهم، الذين يتطلعون إلى الاستيلاء على فلسطين وتهجير الفلسطينيين إلى الأردن». ويضيف: «بما أن هذا هو فكرهم، فهم يتصيدون الفرص لإعادة طرح هذه الأفكار». لكن من الزاوية الواقعية، «نحن حرقنا عظام الوطن البديل ودفنّاه، غير أننا نتوقع أن تخرج علينا دائماً أصوات إسرائيلية تعيد النفخ في موضوعة الوطن البديل»، موضحاً أن هذا الحلم القديم عند الإسرائيليين «بدأ بإسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل، ثم أصبح من البحر إلى النهر، ثم قاموا ببناء الجدار العازل حول أنفسهم»، في محاولة لعزل الشعب الفلسطيني. ورداً على تحذير قوى المعارضة الأردنية من مخاطر الوطن البديل، ومطالباتها بإلغاء معاهدة وادي عربة ومعاهدة كامب ديفيد، يحاجج المجالي بأنه في ظل وجود المعاهدة، فإن «العالم كله لا يقبل بمنطق الوطن البديل ولا يسمح به، فالأردن اكتسب مصداقية عالمية، وصوته مسموع، وأصدقاؤه في العالم لا يسمحون بهذه الترّهات». يشدد المجالي على أن «الوطن البديل لم يعد أمراً قابلاً للتحقق». ويرد على الذين يطالبون بإلغاء المعاهدتين الأردنية والمصرية مع إسرائيل: «هل يريدون أن تعيد مصر سيناء إلى إسرائيل، ونتخلى نحن عن حقوقنا المائية وعن أراضينا التي كانت محتلة؟». ويدعو هؤلاء أن يدركوا تعقيدات الوضع. فالعرب هم الذين طالبوا الأردن أن يترك الشأن الفلسطيني لأهله، وبالتالي فإن دوره هو مساعدة الشعب الفلسطيني، لا أن يحلّ مكانه، وهذا يعني أن «علينا أن ندافع عن الأردن أولاً، ثم عن فلسطين التي نحن الآن أقدر، بوجود المعاهدة، على خدمتها». لكنْ يبدو أن نواباً أردنيين كانوا أقل ثقة بنتائج المعاهدة من المجالي، فلم يتوانَ كثير منهم عن المطالبة، رداً على العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، بطرد السفير الإسرائيلي في عمّان وإغلاق السفارة، أو بإلغاء معاهدة وادي عربة. في 28 كانون الأول/ديسمبر من العام الفائت، وجّه 22 نائباً مذكرة إلى الحكومة يطالبون فيها بإلغاء قانون معاهدة «السلام» الأردنية الإسرائيلية. وفي أجواء الضغط النيابي على الحكومة لاتخاذ إجراء مؤثر ضد الحكومة الإسرائيلية، تلا رئيس الوزراء نادر الذهبي في جلسة 4 كانون الثاني/يناير 2009، بياناً أكد فيه أن الحكومة «تحتفظ بكل الخيارات المتاحة أمامها لاتخاذ أي إجراء لتقييم العلاقات مع أيٍّ كان، وبخاصة إسرائيل، وإعادة النظر فيها من منطلق الحرص على خدمة مصلحة الوطن العليا». أما رد الفعل النيابي على المقترَح الذي صوّت عليه الكنيست الإسرائيلي والقاضي بأن الأردن هو الوطن البديل للفلسطينيين، فقد تمثل بتقديم عشرة نواب مقترحاً أحيل إلى اللجنة القانونية لبحث إصدار مشروع قانون يلغي معاهدة السلام، مستندين في ذلك إلى قيام الطرف الإسرائيلي بخرق اتفاق المعاهدة. المسار الصعب طريق الأردن نحو الالتحاق بعملية السلام الشرق أوسطية بين دول الطوق وإسرائيل لم تكن سهلة. فحينما بدأت الإدارة الأميركية الإعداد لانعقاد مؤتمر السلام حول الشرق الأوسط العام 1991 في مدريد، تم التعامل مع الأردن بوصفه خارج تحالف حفر الباطن الذي شمل حوالي نصف البلدان العربية بما فيها مصر وسوريا. ولذلك لم يقم وزير الخارجية الأميركية آنذاك جيمس بيكر، بزيارة الأردن خلال جولاته الثلاث الأولى للمنطقة، حسب ما يؤكد رئيس الوزراء الأسبق وعضو الوفد الأردني المفاوض، فايز الطراونة. الطراونة يوضح أن العلاقة مع الولايات المتحدة كانت سيئة جداً آنذاك، وأن رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق شامير كان ما زال يرفض التعامل مع وفد فلسطيني مستقل لمفاوضات السلام. ويستذكر كيف أن الملك الحسين، «الداعية للسلام منذ العام 1967، والذي تعاني بلاده من حصار أميركي مخيف»، التقط اللحظة التاريخية، فعرض «المظلة» الأردنية لوفد فلسطيني أردني مشترك، مشترطاً أن يقتصر ذلك على المشاركة في افتتاح مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، على أن تتم المفاوضات الثنائية مع إسرائيل بوفد فلسطيني مستقل. لكن عندما انتقل المفاوضون إلى واشنطن، وجدوا أمامهم ترتيبات لمفاوضات وفد أردني فلسطيني مشترك مع الجانب الإسرائيلي في غرفة واحدة وبأجندتين، وهو ما تم رفضه، وأصبح رؤساء الوفود الثلاثة يجتمعون في «الكرادور»، أي الممر، لحسم مسألة المفاوضات بوفود مستقلة، ما أطلق مصطلحاً جديداً هو «دبلوماسية الكرادور». لكن فوز حزب العمل الإسرائيلي بزعامة إسحق رابين في انتخابات الكنيست الإسرائيلي أواسط العام 1992، أعطى دفعة قوية للمفاوضات على المسارات السورية والفلسطينية والأردنية، وسمح بالتوصل إلى اتفاقية أوسلو عبر قناة تفاوض فلسطينية إسرائيلية سرّية. تفاعلات أوسلو وإعلان واشنطن توقيع اتفاقيات أوسلو في 13 أيلول/سبتمبر 1993، مثّل نقطة تحول بالنسبة للأردن. مروان المعشر الذي كان ناطقاً باسم الوفد الأردني المفاوض، ذكر في كتابه «نهج الاعتدال، مذكرات سياسية 1991-2005»، أن الوفد الأردني الموجود آنذاك في واشنطن، فوجئ بتوقيع الاتفاق، مثل الوفد الفلسطيني برئاسة حيدر عبد الشافي الذي «أعرب عن غضبه لأنه لم يكن على علم بقناة التفاوض السرية في أوسلو». الطراونة قال إن الأردن لم يوقّع أجندة المحادثات الأردنية الإسرائيلية التي كانت جاهزة، إلا يوم 14 أيلول/سبتمبر، أي في اليوم التالي لاتفاق أوسلو، لأن الملك الحسين كان يحذّر من «خلق حالة من عدم الاتزان، أو الاتفاق على أي شيء قد يؤثر سلبياً في المسار الفلسطيني». ويوضح المعشر أن المفاوضات على الجبهة الأردنية لم تشهد أي تقدم يُذكر منذ أوسلو حتى أيار/مايو 1994، فشعر الملك الحسين أن الإسرائيليين يعطون أولوية للمفاوضات مع الفلسطينيين مقدّمين إياها على المفاوضات مع الأردن، فقرر لقاء رابين شخصياً للتأكد من أن المصالح الأردنية مصانة. ويضيف: «عُقد اجتماع سرّي بين الرجلين في لندن في أيار/مايو 1994 حصل فيه الملك على تطمينات بأن المصالح الأردنية ستؤخذ في الحسبان»، أعقبه أول اجتماع علني بين رابين والملك في واشنطن في 25 تموز/يوليو، تُوّج «بإعلان واشنطن الذي أقرت فيه إسرائيل أن للأردن دوراً خاصاً في الحفاظ على الأماكن المقدسة في القدس، وأن المفاوضات حول الوضع النهائي للاّجئين لن تتم من دون مشاركة الأردن». إعلان واشنطن مثّل بالنسبة للأردن محطة مهمة في اتجاهين؛ الأول في اتجاه القيادة الإسرائيلية، حيث خلق هذا الإعلان بداية «حالة من الثقة المتبادلة»، شجعت على نقل المفاوضات إلى المنطقة، وسرّعت في التوصل إلى معاهدة وادي عربة بعد ثلاث سنوات على مؤتمر مدريد. والثاني في اتجاه الرئيس الجديد في البيت الأبيض بيل كلينتون وإدارته. هذا التطور عكسَ تطلع الملك الحسين لإبرام «سلام حارّ» مع إسرائيل، خلافاً لحالة السلام البارد على الجبهة المصرية، وبداية اهتمامه بمخاطبة الرأي العام اليهودي والإسرائيلي أكثر من مخاطبة الرأي العام في العالم العربي، وكذلك السعي لما هو أكثر من ترميم العلاقات التي تدهورت مع الأميركان إبان حرب الخليج، وذلك بالسعي لإرساء العلاقات الأميركية الأردنية على قاعدة استراتيجية، بحيث لا يكون الأردن عرضة للتقلبات الإقليمية. بهذا الدور المبادر في عملية السلام، نجح الأردن في إحراز أول أهم اختراق في علاقته مع الإدارة الأميركية، إثر استقبال الكونغرس التاريخي للملك الحسين برفقة إسحق رابين في اليوم التالي لتوقيع إعلان واشنطن، وذلك في اتجاه إعفاء الأردن من المديونية وتقديم مساعدات عسكرية له. ما بعد رابين أنجز الأردن معاهدة السلام بالاستناد إلى مرجعية مدريد، وبدأ حراكٌ قويٌّ جداً في الإقليم، وبخاصة في الجانب الفلسطيني، إلى أن اغتيل رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين العام 1995، وتراجعت عملية السلام في ظل الظروف الإقليمية المحيطة، التي تعقدت أكثر الآن بدخول متغيرات عديدة، مثل احتلال العراق، وتدهور العلاقات الإيرانية الأميركية، إضافة إلى الوضع الفلسطيني نفسه. كما ساءت الأوضاع على الساحة الفلسطينية بشكل كبير، بخاصة بسبب العنف الإسرائيلي في الرد على المقاومة، وحصار الرئيس عرفات في رام الله، واستهداف جنين ومناطق كثيرة أخرى في الضفة الغربية، وما تبع ذلك من إجراءات عنيفة، مثل الحواجز التي أقيمت، وضيقت على حركة الناس، ورفض استقدام العمالة الفلسطينية داخل إسرائيل، وتكثيف الاستيطان، وبناء الجدار العازل، والعدوان على غزة. بالنظر إلى مجمل التراجع المشار إليه الذي شهدته عملية السلام بسبب تدمير إسرائيل للعملية السلمية، وبخاصة على المسار الفلسطيني، يشدد الطراونة على أن الأردن يوظّف الآن معاهدة السلام في صالح الجانب الفلسطيني لمسح جراحات فلسطينية كبيرة جداً، وتهيئة متنفس للشعب الفلسطيني من خلال الجسور، فلولا معاهدة السلام «ما كان يتسنى مرور قوافل الخير وتزويد الجانب الفلسطيني بالمواد الغذائية والطبية، ووجود مستشفى في رام الله وآخر في غزة». ويرى الطراونة أن «من يعتقد أنه بطرد السفير الإسرائيلي، ستبقى الجسور مفتوحة أمام أشقائنا وأهلنا وتوأمنا في الضفة الغربية وفي غزة أيضاً، فهو واهم». أبعاد اقتصادية ترافق توقيع معاهدة السلام مع مراهنات على انتعاش اقتصادي كبير يتأتى من تنشيط السياحة في المنطقة، ومن تنفيذ مشاريع اقتصادية مشتركة، بخاصة في غور الأردن في مجال النقل، مثل مطار السلام في العقبة، والمياه والطاقة مثل قناة البحرين، والزراعة وغيرها. لهذا تحاجج القوى المعارضة لمعاهدة السلام بأن المعاهدة لم تجلب التنمية التي تم الترويج لها للأردن. الطراونة يرد على هذه الحجة بالتساؤل: «هل نفهم من ذلك أن الازدهار كان سيأتي لو لم نوقّع المعاهدة؟»، ويطرح مقاربة مختلفة للبعد الاقتصادي تأخذ في الحسبان تداعيات حرب الخليج الثانية وانعكاساتها على الأردن، مؤكداً أن الأردن دخل السلام لاعتبارات سياسية واستراتيجية في المقام الأول، وليس من أجل «قبض ثمن فاتورة». في الجانب الاقتصادي، يذكّر الطراونة بحال الوضع الأردني قبل مؤتمر مدريد، مشيراً إلى حصار خليج العقبة ضمن تداعيات حرب الخليج الثانية، وتردي علاقات الأردن الإقليمية والدولية، وأن عملية السلام وضعت نهاية لهذا الحصار، وفُرج عن العقبة فقط بعد توقيع المعاهدة. ويستطرد بأن الأردن استعاد علاقاته الدولية والإقليمية، ثم حصل مباشرةً على «إعفاء مديونية بقيمة 750 مليون دولار من الولايات المتحدة الأميركية، و50 مليون جنيه إسترليني من بريطانيا». ويضيف أن المساعدات الأميركية المدنية والعسكرية التي كانت توقفت العام 1990، استؤنفت مع ارتفاع كبير في قيمتها، إذ بعد أن «كانت تراوح بين 40 و45 مليون دولار سنوياً، أصبحت تصل اليوم إلى 900 مليون دولار». وهو يعدّ المساعدات الاقتصادية للأردن من حيث نصيب الفرد بأنها الأعلى نسبة في العالم، فيما صنّف المساعدات العسكرية بأنها تأتي في المرتبة الثانية أو الثالثة في العالم من حيث نصيب الفرد أيضاً. ويؤكد أن ذلك لم يكن ممكناً في ظل هيمنة الكونغرس الأميركي على موضوع المساعدات، بخاصة في ظل تأثير اللوبي الصهيوني الإسرائيلي اليهودي، لولا معاهدة السلام. أما على الصعيد غير المباشر، فقد تغيرت نظرة السعودية ودول الخليج العربي الأخرى للأردن. ومع حلول العام 1997- 1998 كانت العلاقات تعود تدريجياً، بما في ذلك على صعيد التجارة والتحويلات والطلب على الأيدي العاملة الأردنية. كما وقّعت المملكة اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي الذي تعامل مع الأردن بوصفه دولة مشاطئة للبحر المتوسط، وساعد ذلك في صعود الأردن إلى منظمة التجارة العالمية، التي كان يمكن للولايات المتحدة أن تَحُول بين الأردن وبينها لو أرادت، ثم إلى اتفاقية التجارة الحرة. تأهيل الأردن لعضوية منظمة التجارة العالمية، تطلّب أيضاً من الأردن إجراء تعديلات واسعة لتشريعاته الاقتصادية، ما مهد الطريق عملياً لإبرام باتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة، إلى جانب المناطق الصناعية المؤهلة. يصف مروان المعشر اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة العام 2000، بأنها «أول اتفاق من هذا النوع مع بلد عربي، والرابع من نوعه في العالم بأسره». ويرى أنها «ترمز إلى النجاح الذي حققه الأردن في إصلاح اقتصاده، وإلى المكانة الدولية التي يتمتع بها، علماً بأنها غير متكافئة مع حجمه وقوته الإقليمية والدولية النسبية». اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة تفتح فرصاً كبيرة أمام المنتجات الأردنية لدخول السوق الأميركية، حيث تعفى من الرسوم الجمركية مع بدء تطبيق الاتفاقية وجزء منها تراوح فترة التفكيك الجمركي للرسوم المفروضة عليها من سنتين إلى عشر سنوات تنتهي مطلع العام 2010. السفير الأميركي في عمّان ستيفين بيكروفت، قال في ورشة عمل نُظمت مؤخراً حول كيفية تحقيق أقصى الفوائد من اتفاقية التجارة الحرة للمستوردين والمصدّرين: «التجارة الثنائية مع الأردن نمت من 369 مليون دولار في العام 1998 إلى 2.1 بليون دولار في العام 2008. وأخذت الصادرات الأردنية تتنوع، حيث وصلت أنواع البضائع الأردنية المختلفة من الملابس والحلي ومكيفات الهواء والأدوية والأغذية إلى الولايات المتحدة». أما المناطق الصناعية المؤهلة، فقد أُبرمت اتفاقيتها بين الأردن وإسرائيل والولايات المتحدة العام 1997، وبدأ تنفيذها في مدينة الحسن الصناعية بإربد، ثم امتد لاحقاً إلى عمّان والكرك والضليل. ويتعين أن تشتمل منتجات تلك المناطق على 8 في المئة قيمة مضافة إسرائيلية بحسب الشروط الأميركية كي تُستثنى من الرسوم الجمركية، والقيود على الكميات. الخبير الاقتصادي يوسف منصور يرى أن الأردن لا يجني عوائد يعتدّ بها في ما يخص المناطق الصناعية المؤهلة التي «لا تنتج قيمة مضافة أردنية بسبب المزايا المقدمة لصناعات الألبسة في تلك المناطق»، ومن ضمنها «استئجار بنية تحتية بتكاليف رمزية، ومياه وكهرباء بأسعار مدعومة، وأجور عمالة متدنية». أما ما يخص اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، فالأردن ليس ملزماً باستخدام مواد ذات محتوى إسرائيلي، لكن «بما أننا لا ننتج المواد اللازمة لصناعة الألبسة، فلا يعود أمامنا إلا أن نستوردها من بلدان أخرى»، وهذا يعني أن النتيجة واحدة، بحسب منصور. وينتقد منصور غياب القطاع المدني عن المفاوضات الخاصة بالاتفاقيات الإقليمية والدولية، لأن الحكومات تعطي الأولوية للحصول على المساعدات مقابل إبرام هذه الاتفاقيات، والقطاع الخاص ينظر للمسائل بمنظار ما يحقق من أرباح، ويعطي مثالاً على ذلك كيف أن اتفاقية التجارة الحرة وضعت قيداً على الصناعة الدوائية الأردنية، بعدم السماح لها بإنتاج الأدوية التي انتهى حق الاختراع لها إلا بعد 5-8 سنوات. المحلل الاقتصادي أحمد النمّري، يشخص أبرز المآخذ على المناطق المؤهلة، بمحدودية ما تشغله من عمالة محلية وما تنتجه من قيمة مضافة أردنية، هذا عدا الجانب السلبي المتمثل في إنتاج سلعة واحدة هي الألبسة، والتصدير إلى بلد واحد هو الولايات المتحدة. ويوضح النمّري أنه ما دام الأردن يُعِدّ البنية التحتية في المناطق المؤهلة، فإن حجم رؤوس الأموال المستثمرة في تلك المناطق محدود نسبياً. وحول دور اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، يرى النمّري أن الصادرات الأردنية للولايات المتحدة ما زالت الغلبة فيها للألبسة المنتجة في المناطق الصناعية المؤهلة، وأن مزايا التصدير للسوق الأميركية بدأت تتراجع بعد العام 2005، بسبب استفادة الصين من إلغاء الرسوم الجمركية على صادراتها من الألبسة إثر دخول اتفاقيات لتحرير التجارة حيز التنفيذ، ما يعني أن فائض الميزان التجاري سيتحول تدريجياً إلى عجز. إحصاءات التجارة الخارجية مع الولايات المتحدة بحسب الأرقام المتوافرة لدى غرفة تجارة عمان، تشير إلى أن الصادرات الأردنية أخذت تتراجع منذ العام 2006، إذ هبطت من 907.7 مليون دينار أردني إلى 749.7 مليون في العام 2008، يقابل ذلك ارتفاع قيمة المستوردات خلال الفترة نفسها من 393.2 مليون إلى 549.1 مليون، فيما تشير أرقام الأشهر السبعة الأولى من العام الجاري إلى عجز تجاري بقيمة 47.9 مليون دينار. رئيس النقابة العامة للعاملين في الغزل والنسيج فتح الله العمراني، أوضح أن العمالة الأردنية تبلغ ما نسبته 25 في المئة من مجمل العمالة في المناطق المؤهلة البالغة حالياً 32 ألفاً، لافتاً إلى أن العمالة الأردنية تشتمل على 70 في المئة نساء، وأنه بسبب تدني الأجور في تلك المناطق، فإن النقابة تبذل جهوداً مضاعفة للدفاع عن حقوق العمال، بخاصة من خلال الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي باتت تشمل نصف الشركات العاملة في المناطق المؤهلة، إضافة إلى المطالبات المستمرة لزيادة حجم العمالة الأردنية. بعد مضي 15 سنة على معاهدة وادي عربة و16 سنة على اتفاقيات أوسلو، ما زال تحقيق السلام في المنطقة بعيد المنال، في غياب الحل العادل والمتكامل للقضية الفلسطينية التي هي جوهر الصراع العربي الإسرائيلي. وإذ تتحمل إسرائيل المسؤولية الرئيسية عن هذا الوضع، فإن مصلحة العرب، كل العرب، هو إعادة الاعتبار لدورهم الجماعي في البحث عن سلام شامل من خلال خطة السلام العربية. |
|
|||||||||||||