العدد 6 - محلي | ||||||||||||||
يُعَدّ قرار حلّ مجلس النواب قراراً مهماً، ويمثّل تطوراً جوهرياً في الدينامية السياسية الداخلية خلال الأشهر المقبلة. ورغم غياب استطلاعات للرأي تتيح التعرف على ردة فعل المواطنين نحو حل المجلس، إلا أن الانطباعات العامة تشير إلى أن القرار لقي ارتياحاً شعبياً واسعاً، وترحيباً من جانب النخب الأردنية المختلفة. الارتياح الممزوج بالترحيب، عمّق حقيقة أن حلّ المجلس لم يكن قراراً لتعطيل الحياة النيابية أو تعليقها، بل يشكّل مقدمة لإجراء انتخابات نيابية مبكرة، ما يعني أن الهدف منه ليس الإخلال بتوازن العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية لمصلحة الأولى على حساب الثانية، بل التعبير عن قيام النظام السياسي بعملية تجديد ذاتي لأركانه وأدواته، والاستجابة لمطالب تيار واسع في الشارع الأردني يرى ضرورة رحيل مجلس النواب، بوصفه فقدَ قيمته ممثلاً للمواطنين. وقد جاءت الرسالة الملَكية للحكومة بإجراء انتخابات حرة ونزيهة ضمن قانون عادل وممثّل، لتكرس وجهة نظر مفادها إن الحلّ يرمي لمعالجة الخلل في التكوين العام للمجلس الذي أفرزته إدارة وأجندة الانتخابات النيابية للعام 2007، وكذلك الإطار القانوني الناظم للعملية الانتخابية. التكهنات بحلّ مجلس النواب انطلقت منذ أيار/ مايو 2009، على إثر نتائج استطلاعات أجراها مركز الدراسات الاستراتيجية بالجامعة الأردنية لتقييم أداء مجلس النواب، وعكست توافقاً لدى الرأي العام والنخب بأن المجلس لم ينجح في النهوض بمهامه الدستورية، كما لم ينجح في تمثيل المواطنين أو التعبير عن آرائهم ومصالحهم. هذا التقييم السلبي عبّر عن نفسه في انهيار ثقة المواطنين بالمجلس، وفي تراجع ثقتهم بمؤسسة مجلس النواب بصفة عامة. هذا بحد ذاته كان بمثابة ناقوس خطر بأن المجلس الذي يتجسد دوره الأساسي في كونه المؤسسة التمثيلية للمواطنين التي يقومون من خلالها بالمشاركة في الحكم، والمساهمة في وضع التشريعات والسياسات التي تعبّر عنهم وعن مصالحهم، لم يعد صالحاً. فالرقابة والمساءلة على أداء السلطة التنفيذية التي يخولها الدستور لمجلس النواب هي –في جوهرها- تأكيد على مبدأ مراقبة الشعب لأداء السلطة التنفيذية ومشاركته في الحكم عبر مجلسه الممثل. انهيار الثقة في مدى تمثيل المجلس الخامس عشر للمواطنين، أخذ يتفاعل في اتجاه أزمة حقيقية في النظام السياسي برمّته، أساسها غياب المؤسسة الشرعية والدستورية التي يمكن أن تشكل الجهة التي يلجأ إليها المواطن ويمكن له عبرها أن يكون عنصراً فاعلاً ومشاركاً في عملية صنع القرار. فغياب تمثيل المجلس للمواطنين يعني إبقاءَهُم والقوى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية دون أطر شرعية ودستورية ناظمة؛ وتهميش الغالبية العظمى من المواطنين، ودفعهم باتجاه اللامبالاة السياسية، ومن ثم البحث عن أطر غير شرعية أو غير بنّاءة أو أطر تقليدية ينخرطون بها أو تصبح ممثلة لهم. عوامل عدة أدت إلى وقوع مجلس النواب الخامس عشر في حالة من العجز المزمن الذي أثبتت التجربة استحالة معالجته أو إنعاشه، عبر حلول جزئية غير جذرية وجوهرية. بعض هذه العوامل ذو علاقة بقانون الانتخاب، وبعضها الآخر بكيفية إدارة الانتخابات النيابية الأخيرة 2007 التي جاءت بهذا المجلس إلى الحياة. فقد انتُخب المجلس على أساس قانون انتخاب يتضمن ثلاثة مستويات إشكالية: الأول أن قانون الصوت الواحد في دوائر متعددة المقاعد حوّلَ صوت الناخب إلى صوت مجزوء وليس كاملاً، ما أدى إلى حالة تفكيك بالمعنى الاجتماعي السياسي. إذ دفعَ باتجاه انفصام عرى التواصل والترابط بين الدوائر الانتخابية المختلفة، كما أدى إلى تفكيك الترابط المصلحي الحداثي لأبناء الدائرة الانتخابية الواحدة، لصالح ترابط قائم على علاقات قرابية أو مصلحية ضيقة. أي أن النائب أصبح نائباً لفئة من أبناء دائرته، تربطه بهم صلة قربى أو مصالح محددة لا تشمل مواطني الدائرة كافة. وبدلاً من أن تؤدي الانتخابات إلى مراجعة وطنية عامة للسياسات والأولويات والأجندات، أصبحت ضمن هذا الإطار التشريعي ساحة لفقدان التوازن على الصعيد الوطني. المستوى الثاني من إشكالية قانون الانتخاب، أن الإطار التشريعي للانتخابات النيابية المتمثل في إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية (2001) التي جرت على أساسها انتخابات المجلس المنحل، قد أفرز مزيداً من التفتيت، حتى إن بعض الدوائر الانتخابية رُسمت لتحافظ على أطر تقليدية أو لتكرّس ثقلها السياسي، أي إعادة إنتاج توازنات عشائرية أو تقليدية قديمة كانت في طريقها إلى الاندثار. أما المستوى الثالث، فيتبدى في تقسيم مقاعد مجلس النواب على الدوائر المختلفة دون معايير واضحة ومفهومة للشارع، ما أثار انطباعاً دائماً بأن توزيع المقاعد غير عادل، وأن هدفه تهميش فئة من المواطنين أو زيادة وزن فئة أخرى. هذه الإشكاليات تركت آثاراً عميقة على تركيبة المجلس الذي انتُخب على أساس هذا القانون. هذا ما يمكن قراءته من رصد الانتخابات من 1997 إلى 2007، إذ عمل القانون لمصلحة القوى التقليدية والعشائرية على حساب القوى السياسية، ودفع بالناخبين إلى تفضيل العودة إلى الانتماءات الفرعية الرأسية غير الطوعية على حساب الانتماءات الطوعية المصلحية الأكثر تسييساً. وأحياناً دفع العملية الانتخابية إلى مستوى تنافس يتسم بالمشاجرات والمناكفات الاجتماعية والشخصية غير السياسية بين فئات الدائرة الانتخابية الواحدة. بما يخص العوامل المتعلّقة بإدارة الانتخابات التي ساهمت، إلى حد بعيد، في ميلاد المجلس الخامس عشر عاجزاً، فقد ارتبطت تلك الإدارة بالأجندة السياسية لبعض المتنفذين في الدولة عشية الانتخابات، ورؤيتهم المتعلّقة بتركيبة المجلس النيابي ودوره المتوقَّع. لقد أصبح واضحاً أن رؤية هذه الفئة من المتنفذين آنذاك، تقوم على إجراء انتخابات نيابية تضمن الوصول إلى مجلس نواب «طَيِّع» يأتمر بأمر الحكومة، ويفقد دوره الرقابي والتمثيلي للمواطن. وقد عملت إدارة الانتخابات على تحقيق هذا الهدف من خلال الأساليب كافة (وصَفها المركز الوطني لحقوق الإنسان لاحقاً بـ«غير النزيهة وغير الحرة») التي تضمن عزل المرشحين المسيَّسين أو ذوي الانتماءات الحزبية، ثم عزل المرشحين ذوي البرامج السياسية أو أولئك المرشحين الذين يسعون إلى الخروج بتوافقات في داخل دوائرهم الانتخابية، على أسس برامجية دون الارتهان إلى حمى الانقسام العشائري والفئوي التقليدي وغير الطوعي. وبالغت إدارة العملية الانتخابية في درجة المفاضلة بين المرشحين المرتهنين للعبة الانقسام حتى إنها فاضلت بين مرشح أكثر «طوعاً» من مرشح آخر، أو مرشح ذي علاقة أوثق بقوة متنفذة في أجهزة الدولة، مقابل مرشح ذي علاقة أقل ثقة بالقوة نفسها. وأدت الانتخابات التي أفرزت المجلس إلى تشطير المشطور وقسمة المقسوم. لقد وصل العديد من نواب المجلس الخامس عشر مثقلين بولائهم لأشخاص متنفذين في الدولة آنذاك، أكثر من ارتباطهم باتجاهات وآراء مواطني دوائرهم الانتخابية. وبدا أن هذا المجلس مأزوم حتى في الأيام الأولى من عمره، وانعكس هذا على مستوى الحوار والنقاش الذي دار داخله، سواء في مناقشة البيان الوزاري لحكومة الذهبي، أو مناقشة الموازنة العامة 2008، كما ظهرت أزمة المجلس في ميلاد التكتلات والاتجاهات داخل أروقته. هذه الحالة المأزومة للمجلس، ترجمت نفسها في علاقة غير مستقيمة بين المجلس والحكومة وأجهزتها، عجزَ فيها المجلس عن صياغة تصورات أو توجهات من تلقاء نفسه، فقد كان بحاجة إلى توجيهات أو حتى تعليمات. هذه العلاقة المشوهة انعكست على علاقة مشوهة هي الأخرى بين النواب وناخبيهم، إذ فقدَ المجلس صبغة شرعية التمثيل، وبات هَمُّ كثير من النواب تحقيق مكاسب ومصالح للأشخاص المتحلّقين حولهم. وزاد من أزمة المجلس رحيل أكثرية المتنفذين في مواقع الدولة، الذين أنتجوه حسب أجندتهم أو ما سُمّي في حينه «رفع الغطاء الأمني». ودخلَ المجلسُ، أو كثيرٌ من أعضائه، في حالة تخبط، وأصبحت غالبية من ردود فعل بعض نوابه مجالاً للتندُّر من المواطنين، كما ظهر جليّاً في أزمة المجلس مع الصحافة خلال أيار/مايو - حزيران/يونيو 209. لقد فشلت محاولات إنعاش المجلس الخامس عشر من خلال حلول جزئية هنا وهناك، أو محاولات إعادة الهيبة والاحترام له، إذ لم تفلح تلك المحاولات في إخراجه من أزمته المزمنة، وتبين أن مجلساً غير مسيس أو «طيّع» سرعان ما يتحول إلى عبء على الدولة ومؤسساتها بدل أن يكون رافعةً لها، وتتعذر معالجة هذه الأزمة بغير قرار جذري. وعليه، جاء قرار الحلّ مرتبطاً بالدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة، وكرّس رؤية النظام السياسي بأن تتمتع هذه الانتخابات بالنزاهة في إطار قانون عصري. لقد أثبتت تجربة العامين من عمر المجلس المنحل، أن هناك تكلفة سياسية عالية على الدولة والمجتمع، مع فرْز مجلس نواب ضمن قانون انتخاب غير حديث وإدارة انتخابية تضمن مجلساً «طيّعاً»، بما يهدد الاستقرار السياسي وينزع الثقة بمؤسسات الدولة، وقد أكدت هذه التجربة أن الطريق الوحيدة الأقل تكلفة والأكثر ضماناً للاستقرار السياسي هي بالتخلص من العوامل كافة التي ساهمت في فقدان المجلس دورَيه التمثيلي والرقابي، وذلك بصياغة قانون انتخاب حديث، وتوزيع مقاعده على أسس واضحة، تضْمن التنافس بين المرشحين وفقاً للبرامج والتيارات الطوعية، ويعمل على ترميم الانقسام والانشطار في المجتمع، وتجري بموجبه انتخابات يثق المواطنون بحريتها ونزاهتها، وتهيئة الظروف لميلاد مجلس يستمد شرعيته من الناخبين، ويقوم بدوره الرقابي والتشريعي، ويسهم في إعادة تشكيل العملية السياسية بمفردات جديدة أساسها التوافقات والمصلحة العامة، والتوازن بين السلطات. مع أن سلوكاً سياسياً كهذا قد يكون مضْنياً وشاقّاً للسياسيين وكبار البيروقراطيين، إلا أنه يظل الأسلوب الأوحد لضمان الاستقرار السياسي وتعميقه، وإرساء علاقة بنّاءة بين المجتمع والدولة. |
|
|||||||||||||