العدد 5 - بورتريه | ||||||||||||||
رغم ما بدا من طول الطريق، إلا أن استقبال عادل المحاميد ترك في قلوب ضيوفه من ے الراحة، وأودعَ فيها السكينة. وفي غرفة متواضعة ببيت صغير على جانب الطريق عند مدخل المدينة، جلسنا إليه، ذلك الشيخ الذي قفز اسمه في الحياة العامة أثناء أحداث معان 2003 وقتَ كان رئيساً للّجنة الشعبية في المدينة. إذ وظّف خبراته ومهاراته ضمن فريقٍ لإخراج معان من أزماتها المتتالية في تعامُل الدولة مع المواطنين. أبو ياسر المولود العام 1943، يدين إلى بداياته عندما ذهب للدراسة في الشوبك، ويحكي بفخر عن خاله الشهيد منصور كريشان الذي ترك في نفسه الكثير من القيم، كما كان لدراسته الجامعية في دمشق تأثيرٌ في جملة التحولات التي رافقت حياته. محطته الأولى كانت الشوبك، حين ذهب مع عمه المعلّم أحمد المحاميد، ليتابع الدراسة الابتدائية، وكانت البلدة وقتذاك منفى للحزبيين، زمن كانت التظاهرات تموج ضد حلف بغداد، ومن وقتها وقعَ في قلبه «السخط على ظلم الاستعمار». وفيها، تعرّف إلى معلّمين أثّروا فيه، وأسهموا في صوغ شخصيته: رفقي هلسا وأيوب هلسا (شيوعيان)، عبد السلام حبيبة (بعثي)، ومحمد أبو يوسف (ثلاثتهم اعتُقلوا العام 1955)، ومحمد الجزار. شارك في التظاهرة التي جرت في الشوبك ضد تمبلر، وخلالها سأل أحدَ المعلّمين عن المقصود بالديمقراطية والدكتاتورية. وبعد أكثر من عقد، قاد تظاهرة على إثر إحراق المسجد الأقصى 1968، انطلقت من مدرسة الصناعة بجبل الحسين إلى مقرّ الحكومة. محطته الثانية جامعة دمشق، وقتَ لم تكن الجامعة الأردنية قد تأسست بعد. إذ مَنَحَهُ ترتيبه الثاني على المحافظة «بعثةً» لدراسة الجغرافيا، ليقرأ في ما بعد تضاريس التاريخ وتعرّجاته. من المفارقات أنه مالَ في بلد «البعث» للإخوان المسلمين، وعندما عاد إلى الأردن، لم يَرَ في «الجماعة» ما يُرضي طموحه، كما لم يتخذ من «اشتراكية» معلّميه الأوائل مُعتقَداً، ربما لميوله الدينية ولطبيعة حاضنته الاجتماعية. عاش في دمشق زمن مرحلة الانفصال، وكانت سورية تتهيأ لتحولات عاصفة، وفيها شهدَ «كوهين» معلّقاً بساحة المَرْجة. كانت البلاد تمور بحراك «البعث» والشيوعيين، والإخوان المسلمين، ويقول إنها ازدهرت اقتصادياً بمقدار انفتاحها اجتماعياً، وبعد تسلُّم البعث للسلطة بدأ الانكماش الاقتصادي بسبب «التأميم، وهجرات العقول والأموال»، بحسب تعبيره. بدأ معلّماً في الزرقاء، ثم في معان، وأُعير بعد ذلك إلى سلطنة عُمان التي شكّلت محطته الثالثة، وكانت ثورة ظفار تنشط في شواهق صلالة، ولأن الألغام زُرعت في كل مكان، فقد كان يتّجه للعمل عبر طائرة صغيرة، برفقة طيار إنجليزي وممرض باكستاني. ويحكي عن تحوُّلات شهدتها عُمان مع مجيء السلطان قابوس، مستدركاً: «قضوا على الثورة بالنقود». ترأس العام 2003 اللجنةَ الشعبية التي تأسست العام 1989، فأضاف إلى ما يتسم به حكمةً فطرية في القيادة واستيعاب الأحداث. اللجنة «أنقذت البلد (معان) من أزمات كثيرة: أزمة أبو سياف واحتواء السلفيين، اعتصمنا 13 يوماً من أجل المعتقلين العام 2003، حتى أُطلق سراح عدد كبير منهم، واعتصمنا في رئاسة الوزراء حتى أطلقوا 20 معتقلاً، وعرضنا عدداً من المطالب المتعلقة بحال الناس». أُوقف لساعة واحدة العام 2003، وعندما بُثَّ الخبر على الجزيرة، خرجت المدينة «عن بكرة أبيها»، فأُطلق سراحه فوراً. نجحت اللجنة في إطفاء بؤر كثيرة كان يمكن أن تشتعل، غير أنه لم يُتح لها الاستمرار، إذ وُوجهت بمحاولات لإفشالها، لأن هناك من عَدّ نشاطاتها «محرّضاً على الأحداث»، وتم إنشاء مؤسسات موازية، منها مؤسسة إعمار معان، للتعتيم على اللجنة. يقول: «أشعر أنني أدّيت رسالتي، لذلك يقابلني الجميع بالود والمحبة. وأكثر ما يُدخل السرور إلى قلبي مساعدة الناس»، وممن درّسوه وتسلّموا مواقع وزارية: أحمد العقايلة وخالد الغزاوي. ومن الطلبة الذين درّسهم يذكر النواب: نايف كريشان، أحمد حامد كريشان، سند النعيمات، عادل إبراهيم الخوالدة (آل خطاب)، ورجال أعمال منهم: فايز وسامي أبو طويلة. يكاد يفرض على نفسه عزلة، يبدأ يومه بصلاة الفجر، وقراءة القرآن، ثم التوجه إلى مزرعته، وهو يواظب على القيام بالواجبات الاجتماعية. لا يحمل النقّال، وتضم مكتبته نحو ألف كتاب في المعارف المختلفة، ويحفظ لغيفارا: «الثائر ينبغي أن يكون قديساً». يقول إن «أزمة الراهن أزمة قيم»، ويهز رأسه بأسى لهول الحقيقة: «معان نُخرت بالمخدرات». هذه المدينة كما يرى «تنطوي على سرّ يحتاج إلى قراءة»، فموقعها يرتبط بأحداث تنطوي على دلالات، مثل قصة فروة الجذامي الذي صُلب على نبع مياه عفرا، ووقوع حادثة التحكيم بين معاوية وعلي، وانطلاق الثورة العباسية منها، وبدء شرارة الثورة العربية الكبرى ومقاومة معان لستة أشهر. خاله الشهيد منصور كريشان نموذجه في التضحية والإخلاص للوطن وحب المعرفة. يستذكر الكثير من المواقف التي زرعها في عقله وقلبه، ومنها تشجيعه اقتناء الكتب والرحلات والتعامل مع الناس، ويسرد لحظات استشهاده في الباقورة «المحرَّرة» بما تناهى إليه من رفاق خاله في السلاح. يتمتع بصفات أصيلة وخبرة حياة، تسبقها ابتسامة لا تفارقه وأناة، وترحيب لا ينقطع بالضيف، وكرَم، وفوق ذلك أنه حيي وذو ذاكرة حديدية تحصي الوقائع بالساعة واليوم والشهر والسنة. في الحياة التي أرادها أن تكون بسيطة وصادقة، يؤمن أبو ياسر بـ«التغيير على مستوى الأمة»، لا بـ«الترقيع»، مستدركاً: «عُرضت عليّ مناصب، ورفضتُها، لأنني أعمل لله والوطن، وربنا بارَك لي وبأولادي»، خاتماً حديثه بقوله: «لا يأس مع الإيمان». |
|
|||||||||||||