العدد 5 - اجتماعي | ||||||||||||||
بدأت أم سمير رحلةَ معاناتها العام 2000، بعد إصابتها بذوبان الغضاريف السفلية في ظهرها التي عولجت بجراحة لتركيب «مسامير في العمود الفقري»، باءت بالفشل، فلجأت إلى مسكّنات الألم وأقسام الطوارئ التي تزورها مرتين أو ثلاث شهرياً. أم سمير سبعينيةٌ طريحة الفراش منذ سنوات، «وصلتْ إلى نقطة اللاعودة في الأمل بالشفاء»، بحسب تعبيرها، ما يجعلها «عصبية ويائسة»، وغير متقبّلة لواقع يجعل مساعدة الآخرين لها ضرورياً لقضاء حوائجها. تقول الأمُّ لثلاثة أبناء وابنتين جميعهم تزوجوا، وهي تتقلّب على فِراشها الذي أصبح رفيقها الدائم، إن الأوجاع وصلت بها في كثير من الأحيان لـ«الرغبة بالموت»، والتصريح بهذه الرغبة في غير مناسبة. في حالة أخرى، توفي الأربعيني يحيى يوسف الشعباني بعد أن قبع في وحدة العناية المركّزة بمستشفى البشير لعشرة أيام لإصابته بحادث سير أدى إلى «اختناق الدماغ وموته» بحسب تعبير الأطباء. حالته الصحية التي اعتمدت بشكل شبه كامل على أجهزة إنعاش القلب والتنفس، طرحت تساؤلات ومقترحات متضادّة من أهله: «إزالة الأجهزة وإنهاء معاناته الجسدية، أو تركه على الأجهزة»، وفقاً لعمّه بدر الشعباني، الذي كان من مؤيدي الانتظار إلى أن يحين أجَلُ ابن أخيه بشكل طبيعي. اختصاصي الدماغ والأعصاب في «البشير» سعود عجيلات صرّح لـ ے في مكالمة هاتفية، أن مسؤولية الأطباء تحتم إبقاء المريض مربوطاً بأجهزة الإنعاش بسبب «الرفض القانوني لإزالة الأجهزة والأدوية بأي حال من الأحوال». هذه النماذج وغيرها تمثل قمة جبل مغطّى بالجليد، يخفي عميقاً قصصاً مشابهة يعاني أصحابها من حالات صحية استعصت على الطب فيأس منها، ويأس أصحابها أو ذووهم منها، منتظرين خلاصهم بـ«الموت»، كلّ على طريقته، فإما الصبر والسلوان، أو محاولة تجنّب لحظات الأسى والألم عبر تسريع هذه العملية. أستاذ الطب الشرعي في الجامعة الأردنية سميح أبو الراغب عرّف «مساعدة الإنسان على التخلص من حياته بالفعل، من خلال القيام بإجراء معين، مثل إعطاء المريض جرعة زائدة، أو منع العلاج اللازم لاستمرارية حياته، أو التحريض بغرض إنهاء معاناة جسدية وآلام مستعصية شديدة»، بـ«القتل أو الموت الرحيم»، أو ما يُعرف بـ«اليوثانيزيا» euthanasia ، وهي كلمة يونانية الأصل. أبو الراغب أوضح أن هذا المصطلح أُلغي منذ سنوات، واستُبدل به مصطلح «الانتحار بمساعدة الطبيب» physician assisted suicide، وهو مختلف عن الموت السريري أو الدماغي، وعن الغيبوبة coma التي قد تحدث لنقص الأكسجين أو الارتجاج الدماغي أو الصدمة الكهربائية، أو الجلطة القلبية. الموت الرحيم من وجهة نظر مؤيديه، وسيلةٌ لإنهاء معاناة المريض وأهله والمحيطين. أما معارضوه فيتبنّون موقفاً مضاداً للحق الفردي في الحياة وإنهائها، بحسب أبو الراغب الذي يؤكد أن الدستور الطبي الصادر بموجب قانون الأطباء الأردنيين يحظر إنهاء حياة أي مريض مهما عانى صاحبه من الآلام المبرحة. القضية الأولى التي طُرحت على الرأي العام والقضاء كانت في الولايات المتحدة الأميركية، وظهرت في نيسان/إبريل 1975. إذ نُقلت كارين آن كوينلان، 22 عاماً، إلى مستشفى Newton Memorial في نيو جيرسي بعد تناولها مشروبات روحية ممزوجة بالمهدئات، فوُضعت في وحدة العناية المركّزة، وجرى نقلها لمستشفى آخر بعد تسعة أيام، وهي في «حالة غيبوبة مستمرة لا عودة منها». وبدعم من كاهن الكنيسة الكاثوليكية المعتمدة لديها، طلبت العائلة من الأطباء إزالة الأجهزة عنها، فرُفض الطلب، ما دفعهم إلى اللجوء للقضاء رغبةً في أن تموت ابنتهم بكرامة، وقد حكمت المحكمة لصالحهم. وفعلاً أُزيلت الأجهزة عن كرين، لكن المفارقة أنها ظلت على قيد الحياة مدة تسع سنوات، ما أدى إلى أضرار جسيمة في قشرة الدماغ والمناطق المسؤولة عن الإدراك والوعي، وقد توفيت في حزيران/يونيو 1985. أستاذ القانون الجنائي في الجامعة الأردنية أحمد هياجنة، أكد لـ ے عدم وجود نص صريح في التشريع والقانون الأردني يجيز أو يحرّم الموت الرحيم بأنواعه، ما يعني التعامل مع هذه الحوادث بوصفها جرائم قتل مقصودة لا يعوَّل على أسبابها، وإن كان الباعث إنسانياً بداعي الرحمة والشفقة أو غيره، أو موافقة المريض وتصريحه بذلك. هياجنة أكد أن القانون الأردني يعدّ العمل المقترَف في هذا السياق جرماً تجب ملاحقته وإحالة فاعله أمام محكمة الجنايات، موضحاً أن ذلك لم يمنع المحاكم من تطبيق الأسباب التّخفيفية بحق الفاعلين، بسبب «صغر السن مثلاً، أو منح الجاني فرصة لإصلاح نفسه»، وذلك وفق سلطة تقديرية للقاضي بحسب ظروف كل قضية والدوافع النفسية للقتل. يشير هياجنة إلى المادة 339 من قانون العقوبات الأردني التي تنظر في الحادثة وآثارها وتعاقب كل من ساعد شخصاً على الانتحار بإعطاء شراب أو حبوب أو حقن أو غيرها بالاعتقال المؤقت، فإن نجم عنها إيذاءٌ يعاقَب الفاعل بالسجن من 6 أشهر لسنتين، وإن نجم عنها عجز دائم، يعاقَب بالسجن 3 سنوات كحد أدنى. الديانات السماوية، اليهودية والمسيحية والإسلام، اتفقت على أن «قتل النفس حرام»، بوصفها قاعدة عامة مع استثناءات محدودة جداً، وأنّ «الموت الرحيم» مع ما يثيره من جدل لدى الرأي العام العالمي والطبي والتشريعي القانوني، ما زال يحتاج للبحث والتدقيق من وجهات نظر مختلفة. أما التشريعات العربية والأجنبية فلم تنفِ الفعل الجرمي القائم على إزهاق روح إنسان حي، ولم تُجِزْهُ صراحةً، وإن كان الشخص مريضاً ويعاني أوجاعاً وآلاماً غير محتملة، حتى لو كان ذلك بناء على طلبه. أستاذ الفقه وأصوله في الجامعة الأردنية عباس الباز، أشار إلى موقف الإسلام من هذه القضية بقوله: «يرى الإسلام الحياة حق من حقوق الله تعالى، وعلاماتها وجود الروح في الإنسان الحي، فالله هو الذي خلق الموت والحياة، كما جاء في الآية الثانية من سورة الملك: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً». ويضيف أن هذه المسألة طُرحت «كأمر خاص بالله، يبتلي فيه الإنسان بمرض أو حادث مقدَّر، والغاية منه الابتلاء والامتحان ورفع الدرجات والحط من الخطايا والذنوب»، مبيناً أن تمايز البشر يَظهر في هذه الحالات، فـ«من كان مؤمناً بقضاء الله وقدره يصبر على بلائه، ومن لا يعتقد بقضية البلاء سرعان ما يفكر في طريق التخلص من الألم ليرى في إزهاق روحه راحة من ألمه ويُعدّ آثماً وقاتلاً». المسيحية واليهودية تحرّمان أيضاً القتل الرحيم أو القتل بـ«دافع الشفقة»، وتَرَيان أن لا شيء يعفي من العقوبة، وأن الله يهب الحياة، وهو وحده من يستطيع استردادها، ولا يجوز التأثير فيها أو المساس بها. الخوري في كنيسة الروم الأرثوذكس في منطقة الصويفية، إبراهيم دبور، أكد رفض الديانة المسيحية لمفهوم الموت الرحيم بشكل قاطع، مشيراً إلى «عدم أحقية الطب باتخاذ قرار إنهاء حياة الإنسان وأخذ روحه التي وضعها الله»، مضيفاً: «الطب استطاع تطبيب 10 في المئة من الحالات الصحية، لذا لا يمتلك سلطة أو أحقية باتخاذ قرارات صحيحة». يجدر الذكر أن بعض الولايات الشمالية في أستراليا أجازت «الموت الرحيم» العام 1996، ثم تراجعت عن ذلك العام 1998، بعد احتجاج الكنيسة. الحاخام نعوم زوهار، أوضح في مؤتمر الدوحة السادس لحوار الأديان، أيار/مايو 2008، أن الديانة اليهودية لا تختلف عن الديانات الأخرى من حيث نظرتها للموت الرحيم، مشيراً إلى أن الروح الإنسانية مقدسة، لا يجوز التأثير فيها أو المساس بما يضرها، كما جاء في الشرائع اليهودية مع بعض الاستثناءات. من زاوية قانونية، تتباين المواقف القضائية عربياً إزاء هذه القضية. فالقانون اللبناني اعتمد النص الفرنسي الذي يعاقب مرتكب هذا الفعل بدافع شرط الشفقة والإلحاح بالطلب، بالسجن لعشر سنوات، وكذلك الحال بالنسبة للقانون السوري. أما القانون المصري فلم يرد فيه أي نص بخصوص القتل إشفاقاً، واتخذ القانون الكويتي موقف القانون المصري، لكنه أجاز الامتناع عن إصدار الحكم على المتهم، «إذا رأت المحكمة في أخلاقه أو صفاته أو سنه أو الظروف التي ارتكبت فيها الجريمة ما يبعث على الاعتقاد أنه لن يعود للإجرام». رغم اختلاف المواقف القضائية دولياً من «الموت الرحيم»، تفرَّدَ قانون الاتحاد السويسري العام 1938 في المادة 114 بمعاقبة هذه الحالة كجريمة عادية، وأجاز بالتالي للطبيب المعالج أن يوفر للمريض الذي يعالجه الوسيلة التي تؤمن له القضاء على حياته، دون أن يقوم الطبيب بإجرائها بذاته عن طريق الحقن مثلاً، كما أجاز القانون في الأورغواي في أميركا اللاتينية إعفاء فاعل الجريمة من العقوبة المبررة إذا تبين من ظروف القضية ما يُثبت حقيقة أن الفاعل قام بالفعل عن ورع وتقوى. وقضى القانون النرويجي بإمكانية منح أقصى الأسباب التخفيفية. وسائل الإعلام تناولت في آب/ أغسطس 2009 لجوء البريطاني الثمانيني إدوارد نورتون، الذي كان يعاني من الصمم والكفاف، مع زوجته الميؤوس من شفائها جوان، 74 عاماً، لمجموعة من الأطباء والممرضين المتخصصين في إنهاء حياة من يعاني مرضاً عضالاً وأمراضاً جسدية ونفسية شديدة في سويسرا، بقصد إنهاء حياتهما. القضية بدت مثيرةً للجدل، بخاصة أنها كشفت عن تزايد عدد الذين يلجأون لهذه المجموعة، إذ بلغ عددهم وفقاً للمحامي الذي أنشأ هذه المجموعة لدويغ وينيللي، 840 حالة منذ تأسيسها العام 1998. في الوقت نفسه، طالبت البريطانية ديبي بوردي، 46 عاماً، من النيابة العامة توضيح القوانين الخاصة بعملية «المساعدة على الانتحار» assisted suicide، عندما قررت إنهاء حياتها، بعد معاناتها من التصلب العصبي المتعدد progressive multiple sclerosis، وهو مرض مناعي يؤثر في قدرة الخلايا العصبية في الدماغ والحبل الشوكي على التواصل بعضها مع بعض، ما يسبب إعاقة جسدية. ديبي طالبت بحقها «في الحياة بكرامة»، وبعدم محاكمة زوجها لاحقاً على مساعدتها لإجراء عملية الانتحار، إذ يُعدّ هذا الفعل جرماً يعاقب عليه القانون البريطاني بالسجن مدة تصل إلى 14 عاماً، في حين لا يعاقَب الشخص المقْدم على الانتحار. القضاء في كلٍّ من إيطاليا والدنمارك وألمانيا يدين «الموت الرحيم»، في حين يجيزه القانون الهولندي سامحاً للمريض الميؤوس من شفائه طلبَ إنهاء حياته بتدخل إيجابي من الطبيب، وتسمح به بعض قوانين الولايات المتحدة، مثل ولاية أروغون منذ العام 1996، مانحةً المريض الحقَّ في عدم إطالة حياته صناعياً بأي وسيلة علاجية، بينما يجيزه القانون الإنجليزي بشروط تضمن عدم وجود لبس في القرار طبياً ونفسياً وإنسانياً. وسائل الإعلام الغربية تتناقل قضايا «الموت الرحيم» بجرأة وسلاسة أكبر من تلك العربية، إذ يشكل الدين وازعاً ومسيّراً للأمور الحياتية والقانونية في كثير من الأحيان في المجتمع العربي. وهو ما يرى مرضى يصلون إلى مرحلة من اليأس والتخبط، أنه يكبّل حقّهم في إنهاء حياتهم، مطالبين بالسماح لهم للتخلص من حياةٍ يبدون فيها أمواتاً أحياء، وقد تيقّنوا أن مسيرتهم في العطاء انتهت أو تكاد. |
|
|||||||||||||