العدد 5 - ثقافي | ||||||||||||||
يعرض علي أبو نوار في كتابه «حين تلاشت العرب» تجربته ورؤيته حول مجموعة من الأحداث الكبرى التي وقعت بين العامين 1948 – 1964، وبخاصة في الأردن وفلسطين وسورية ومصر والعراق، وأهمها بالطبع الحرب العربية الإسرائيلية وتداعياتها السياسية على الدول والأنظمة السياسية العربية.
مؤلف الكتاب أحد الضباط الأحرار الذين التحقوا مبكراً بالجيش العربي، وكان رئيساً للأركان العام 1957 عندما وقعت الأحداث السياسية الشهيرة، وهو من الفاعلين الرئيسيين فيها، ولجأ بسببها إلى سورية ومصر. وبعد عودته إلى الأردن العام 1964، تقلّد مناصب سياسية مهمة: مستشار سياسي للملك الراحل الحسين، وسفير للأردن في باريس، وعضو مجلس الأعيان. يعرض أبو نوار تجربة الجيش العربي في حرب 1948، التي استُشهد فيها وأصيب المئات من ضباط الجيش وجنوده دفاعاً عن القدس. ومما يرويه المؤلف أن قائد إحدى كتائب الجيش البريطاني أصيب في الحرب، فطلب ألاّ ينقلوه إلى مكان آخر ليموت ويُدفن في القدس. وبرز في الحرب قائد الكتيبة السادسة النقيب عبد الله التل، الذي حشد مع كتيبته قوات ضمت مناضلين عرباًَ، وقد استطاع التل، كما يروي أبو نوار، كسب ود واحترام المناضلين وأهل القدس بأديانهم وأعراقهم المختلفة، واتسع عمله ليشمل التنسيق مع القوات المصرية والليبية. يرى المؤلف أن البريطانيين فوتوا فرصاً كثيرة للانتصار على القوات اليهودية في القدس أو الاحتفاظ بمزيد من الأحياء والمناطق، ويؤكد أن المقاتلين الأردنيين والعرب رصدوا بوضوح نقاط الضعف الكثيرة لدى اليهود، لكن الضباط البريطانيين منعوهم من المبادرة والهجوم، بل وجرى إجهاض الانتصارات الميدانية الأردنية، كما حدث في معركة كنيسة نوتردام، التي أتاحت للجيش العربي السيطرة على مواقع مهمة من القدس، قبل انسحابه بأمر من الضباط البريطانيين، كما يروي أبو نوار. وفقاً للمؤلف، لم يكن بين الفلسطينيين المقاتلين قادة عسكريون بالمعنى الصحيح، ما أضعفَ من قدرات الاستخبارات العربية، وإن أمكن للجيشَين الأردني والعراقي بعد فترة قصيرة من المشاركة في الحرب، إعداد تقديرات وتصورات قريبة من الدقة عن واقع القوات اليهودية ومستواها. يعتقد أبو نوار أن مصر والعراق تخلّتا عن مسؤوليتهما التاريخية في الحرب العام 1948، استجابة للنفوذ البريطاني، وفوتتا بذلك فرصة نصر ممكن على القوات اليهودية. أما سورية، فرغم وعي قيادتها السياسية للخطر الصهيوني، إلا أن قدراتها العسكرية كانت محدودة وضعيفة وغير مؤهلة، ولم تكن قد التقطت أنفاسها بعد نيلها الاستقلال العام 1946، فقد كانت قبل ذلك في مرحلة استعمار صعبة وقاسية. بعد الحرب بدأت تتشكل حياة سياسية جديدة: تيارات وأحزاب سياسية تنشط، ومراجعات مهمة وقاسية أحياناً للأحداث والمواقف، وتشكلت الوحدة بين الضفتين، وأجريت انتخابات نيابية شملتهما معاً، وكان تحرير الأرض ومقاومة النفوذ الأجنبي الشعار الغالب والرئيسي في الانتخابات، وامتدت التداعيات السياسية إلى الجيش أيضاً، وشغل بعض الضباط بتشكيل تنظيم سياسي بينهم لإنهاء السيطرة البريطانية على الجيش، وفي مقدمة هؤلاء: عبد الله التل، علي أبو نوار، محمود الروسان، محمود الموسى، قاسم المناصير، شاهر يوسف ومحمود المعايطة. وقد تطور الجيش العربي بسرعة في التدريب والإدارة والتسليح. في معرض حديثه عن حركة الضباط الأحرار، يقول أبو نوار إن عبد الله التل «كان متعجلاً وغير حذر»، وأنه وسّع اتصالاته مما أدى إلى ملاحقته، فهرب فجأة إلى القاهرة. كانت تلك الفترة، شهدت انقلاباً عسكرياً في سورية بقيادة حسني الزعيم 1949، ثم انقلب عليه سامي الحناوي، وقام أديب الشيشكلي بانقلاب آخر. وفي مصر وقعت ثورة 23 تموز/يوليو 1952 وكان لها امتدادات وتأثيرات في الوطن العربي والعالم الثالث بعامة، فاقتبس الشبان الضباط في الأردن فكرة وتسمية الضباط الأحرار في مصر، مثلما حدث في دول أخرى مثل: ليبيا والجزائر وموريتانيا واليمن. كان الأردن «فُجع» في 20 تموز/يوليو 1951 باغتيال الملك عبد الله بن الحسين في القدس. ويرجّح أبو نوار أن لبريطانيا دوراً في عملية الاغتيال، ويدلل على ذلك بأن موسى الحسيني المتهم بالاغتيال، كان على علاقة واسعة وقوية مع غلوب وكثير من الضباط والقادة العسكريين البريطانيين في الأردن. تعرّف أبو نوار على الملك الحسين وهو في كلية سانت هيرست في بريطانيا، وكان عندما تولى الحسين سلطاته الدستورية يعمل ملحقاً عسكرياً في باريس، ونشأت بينهما صداقة وثيقة تحدث عنها أيضاً الحسين في كتابه مهنتي كملك وقد عاد أبو نوار إلى عمّان ليعمل مرافقاً عسكرياً للملك، ويَذكر أن الملك كان على اطلاع ومتابعة لحركة الضباط الأحرار في الجيش، وكان يؤيدها بوصفها المجموعة التي سيعتمد عليها في إدارة الجيش وتسييره بعد رحيل الضباط الإنجليز. في العام 1956، جرت انتخابات نيابية تُعَدّ الأهم في التاريخ السياسي الحديث في الأردن، فقد كانت على أساس حزبي، وتشكّلَ مجلس نواب بقيادة الحزب الوطني الاشتراكي الذي رأسه سليمان النابلسي، بالتحالف مع القوميين والشيوعيين والبعثيين. كما تمثّلَ في البرلمان: الإخوان المسلمون، وحزب التحرير. وجرى في عهد تلك الحكومة حدثان مهمان: تعريب قيادة الجيش، وإلغاء المعاهدة الأردنية البريطانية. يعرض المؤلف بالتفصيل خطة الضباط لتعريب الجيش بإشراف الملك وعِلْمه، وكان القرار المُعَدّ مسبقاً أن يتولى راضي عناب قيادة الجيش ويعاونه علي الحياري، وحُددت مهمات المبادرة والاستعداد للضباط كلٍّ وفقاً لموقعه ومهمته: شاهر يوسف يتولى قيادة كتيبة المدفعية الأولى، عزت حسن يسيطر على كتائب اللواء الثالث، محمود المعايطة ورفاقه في المدفعية يحتجزون الضباط البريطانيين ويسيطرون على المطار ومعسكرات الزرقاء، تركي الهنداوي وأديب أبو نوار وضباط سلاح المدرعات يضعون السلاح في حالة إنذار وتأهب استعداداً لأية حركة محتملة للقوات البريطانية، مشهور حديثة يقود سرية مدرعات لإسناد حرس القصور، أحمد زعرور وعصمت رمزي يسيطران على كتيبة الهندسة ويعتقلان قائد لواء المشاه البريطاني، أديب عمر يسيطر على سلاح اللاسلكي، غازي عربيات يسيطر على مكاتب القيادة ويتولى أعمال الاستخبارات، منذر عناب ومازن العجلوني وزيد بن شاكر يساعدون الملك ويمررون الأوامر والتعليمات وينسقون الاتصالات بين الملك والضباط. وبعد فترة من تعريب الجيش أُسندت رئاسة أركان الجيش إلى علي أبو نوار. بدأت القيادات العسكرية الجديدة في حملة اتصالات عامة في الداخل، وفي الخارج: مصر وسورية والعراق؛ وتشكلت حالة سياسية تفاؤلية، لكنها، كما هو معلوم، بدأت بالتراجع العام 1957، ودخلت البلاد في مرحلة من التوتر الداخلي والخصومات السياسية الخارجية، ثم بدأت بالانفراج العام 1964، لكن حرب 1967 زجّت البلد في مرحلة جديدة لم يخرج منها بعد. يتوقف المؤلف، كما هو متوقَّع، عند أزمة 1957، وهي معروفة بالنسبة للقارئ، لكن على نحو ربما يكون مختلفاً عن رواية أبو نوار، فهو يؤكد أنه لم تكن ثمة حركة انقلابية في الجيش، لكنّ حركة سياسية وإعلامية قد تشكلت وضعت البلاد في حالة أزمة سياسية كبيرة، ويبدو أن الحركة لم تكن مجموعة واحدة، بل إن حركات حزبية وسياسية كانت تعمل في الجيش أيضاً، وتنسق مع سورية ومصر، وكانت الصورة الإعلامية العامة ولدى الدول العربية أن انقلاباً قد حدث وفشل، لكن الحقيقة مختلفة تماماً، فهو يرى أن ما حدثَ أزمةٌ سياسية مردها تخلّي الدول العربية عن الأردن، والسلوك الإعلامي والسياسي غير المنضبط وغير المسؤول لدى بعض الساسة والضباط، ولكنها على أية حال قضية معقّدة لا يمكن تجليتها في جزء من عرض الكتاب، وتحتاج إلى دراسات ومعالجات، وقد يكون مناسباً أن يُخصَّص لها ملفّ يعرض المعلومات ووجهات النظر، وقد تكون لدينا اليوم حصيلة كبيرة من الدراسات والمذكرات تكفي للخروج من النمطية السائدة عن تلك الأحداث. |
|
|||||||||||||