العدد 5 - ثقافي
 

في كثير من التقارير الاستراتيجية، التي تقرأ تحولات العالم وتستبصر آفاقه، يعطي بعضهم القرن الحادي والعشرين صفة: «القرن الصيني». وُلدت هذه الصين، التي تقترن نهضتها باسم ماوتسي تونغ، قبل ستين عاماً لا أكثر. وهذا ما تحاول السطور التالية إضاءته.

كيف تعطي شعباً حياة جديدة؟

تقدم سولانج بران، في كتابها حكايات صغيرة عن الثورة الثقافية، وصفاً لولادة جمهورية الصين الشعبية العام 1949، وللجهود التي بُذلت من أجل بناء مجتمع يتحرّر، شيئاً فشيئاً، من بؤسه وتخلّفه وأمراضه الكثيرة. تجسّدت هذه ا لجهود، في مشاريع متلاحقة: أولها مشروع «دع مئة زهرة تتفتح» العام 1957، التي تلاها بعد عام واحد شعار: «القفزة الكبرى إلى الأمام»، التي استُكملت بعد ثمان سنوات بشعار لا تنقصه المجازفة عنوانه: «الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى»، التي أطلقها ماوتسي تونغ، قائد الثورة وزعيم الحزب الشيوعي، للتخلص من خصوم سياسيين، نعتهم بالبيروقراطية والتبرجز وضعف المبادرة الحزبية.

مع أن نقداً شديداً انصبّ لاحقاً على ماوتسي تونغ، بعد موته في التاسع من أيلول/سبتمبر 1976، لأنه أشعل ثورة ثقافية ألحقت بالمجتمع الصيني آثاراً مدمرة، إلا أن هذا النقد لم يقضِ على صورته كقائد نوعي لصين جديدة. فوفقاً لتقديرات الحزب الشيوعي اليوم، فإن 70 في المئة من قرارات ماو كانت صائبة، مقابل 30 في المئة شابها الخطأ أو عدم الصواب. وواقع الأمر أن الثورة الصينية تقوَّم، أولاً، بما أنجزته، وبما بدأت به وانتهت إليه. ففي العام 1949 كان المجتمع الصيني يعاني من الجهل والمجاعة والأوبئة. عالجت الثورة الوليدة أوبئة المجتمع بجيش من «الأطباء الحفاة»، ومحت الأمية بأساليب مبتكرة، وشنّت حرباً لا تَهاون فيها ضد الفساد والبغاء والقمار واللصوصية والتكاسل.

استطاعت الثورة أن تستولد شعباً جديداً، ينظر إلى الأمام ولا يكتفي بالحنين إلى الماضي، إلى أن أصبح اليوم من أكثر الشعوب تمسُّكاً بقوميته، ومن أشدهم فخاراً بهويته التاريخية والثقافية. والمحصلة اليوم قوةٌ اقتصادية هائلة، تغزو بضائعها أسواق العالم كله، وقوة عسكرية كبيرة، لا ينقصها من التقنية الحديثة شيء، و90 في المئة من شعبها يحسن القراءة والكتابة وينتج حاجاته الحياتية المختلفة. أنجزت الصين الحديثة، وكما تقول سولانج بران، قطيعة جذرية مع التخلّف لم يعرف التاريخ لها مثيلاً، منتقلة من «بلد الأفيون» إلى قوة عظمى تترك بصمات واضحة على القرن الحادي والعشرين.

يطرح مسار الصين على القارئ العربي السؤال التالي: ما الذي فعلته دول عربية ذات تاريخ عريق مضى على استقلالها ستون عاماً أيضاً؟ هل تقدَّم شعبها، في هذه الفترة، أم تأخر عما كان عليه قبل الاستقلال؟

Solang Brand: Petites Histoire

,De La Revoution Culturelle

Elitions De L’oeil Electriquek Rennes , 2005

الثورة الأخيرة لماوتسي تونغ

هذا هو عنوان كتاب ضخم يقع في أكثر من ثمانمائة صفحة، تَشارك في تأليفه مختصان كبيران في شؤون الصين الشعبية: أولهما الباحث البريطاني رودريك ماركفاركهر، أحد الذين أشرفوا على كتاب تاريخ الصين الذي صدر عن مؤسسة كامبردج، وصاحب الثلاثية المرموقة، عن أصول الثورة الثقافية؛ وثانيهما المؤرخ السويدي مايكل شونهولز، الذي أعطى جهداً فريداً في تحليل الوثائق الخاصة بهذه الثورة.

استغل المؤلفان معارفهما الواسعة في تحليل وجوه «الثورة الثقافية»، وتبيان خفاياها والأسباب التي أدت إليها، والنتائج الصادرة عنها، وارتباط ذلك بالوسط السياسي الذي يتمثل بالنخبة السياسية الحاكمة، التي كان يحركها ماوتسي تونغ منفرداً، تقريباً. ارتكن الكتاب إلى أطروحة أساسية حمّلت الزعيم الصيني مسؤولية الثورة كاملة، موحيةً بأمرين: أن الجهاز الحزبي كان يعمل تحت إمرته، وأن الشعب، لم يكن له موقع في «القرار»، إن لم يكن مأخوذاً بصورة الزعيم وأفكاره. أعطى هذان العنصران للرئيس ماوتسي تونغ «نصراً سهلاً» مكّنه من تخلص سريع من العناصر الحزبية التي لا يرضى عنها، ومن تحريك قاعدة فلاحية واسعة انخرطت في الحراك الاجتماعي الذي أراده ماو. ساعد على ذلك الأخذ بالمعيار، لا بالمرتبة الحزبية، الأمر الذي ضمن صعوداً سريعاً للفلاحين، ودفع بالثورة الثقافية إلى «النتائج الكارثية» معاً، ذلك أن المعيار المذكور سخّف الثقافة والمعرفة والمثقفين، وجعل من «الأصول الاجتماعية الفقيرة» معياراً ثورياً.

من المحقق، كما يوحي المؤلفان، أن ماو أطلق «ثورته»، بالشكل الذي يريد، واثقاً من انتصاره، ومن وقوف «القيادة» إلى جانبه. فإذا كان بعض القيادة مال إلى الصمت أو صرّح بشيء من عدم الرضا خلال مرحلة «القفزة الكبرى إلى الأمام»، إرادوية الأسلوب، فقد بدا الوضع مختلفاً في «الثورة الثقافية»، حين شاركت القيادة، ولو في البداية، ماو أوهامه،كما يقول الكتاب.

يحرّض الكتاب، رغم جهده التوثيقي الكبير، على طرح بعض الأسئلة. يمسّ الأول تأكيد المؤلفين مسؤولية ماو المطلقة عن «الثورة الثقافية»، وتأكيدهما، في الوقت نفسه، غياب دور القيادة وإذعان الجماهير المطلق. والسؤال هو: كيف استطاع الفرد ماو تعبئة الملايين من الفلاحين والكوادر، إذا كان الجميع أرقاماً مسلوبة الإرادة، أو مجرد «بلهاء نافعين» يحسنون التصفيق لا أكثر؟

فصَلَ الكتاب، وهو يسرد تفاصيل الثورة الثقافية، بين القائد الصيني وما هو خارجه، ناسياً، أو متناسياً أمرَين: تقاليد الانضباط الحزبي، التي تجعل الواحد في الكل والكل في واحد، هذا من ناحية، وثقة الشعب الصيني بقائد نوعي هندس ثورته وقادها بنجاح عقوداً عدة، من ناحية ثانية. جعل هذا النسيان من «الماوية» شكلاً آخر من «الستالينية»، وفسّر الظاهرتين بفردية طاغية وبجماهير تقبل بالطغيان، وهي محاكمة لا تقف على أرض صلبة.

Roderick Macfarquhar, Michael Schoenhals: Mao’s Last Revolution,Gallimard, Paris, 2009

الإنسان الذي يُدعى ماو

يمكن بناء صورة ماوتسي تونغ اعتماداً على قرارات متعددة: قراءة أولى مدخلها تاريخ الحركات الشيوعية في القرن العشرين، التي عرفت أسماء شهيرة لعبت أدواراً تاريخية مثل: لينين وستالين وهوشي منه وكاسترو وغيفارا، وماوتسي تونغ أيضاً. تحيل القراءة الثانية على «حرب الشعب طويلة الأمد»، التي مارسها الزعيم الصيني وأعطاها صياغات نظرية. تأتي القراءة الثالثة من «الاجتهاد الفلسفي»، الذي حمل ماوتسي تونغ على الكتابة عن المادية والمثالية و«وقوانين التناقض» ومسائل الأدب والفن. بل إن «كتاباته الفلسفية»، وبعد صعود الثورة الثقافية، عثرت على أصداء لها في الجامعات الفرنسية والإيطالية والألمانية. أما القراءة الأخيرة فتتمثل في ما دُعي ذات مرة: «ماركسية العالم الثالث»، التي رفضت الالتحاق بـ«التقاليد السوفييتية»، وعملت على الربط بين الماركسية والخصوصية الوطنية، وهو ما التفت إليه عالم الاجتماعي المصري أنور عبد الملك.

وسواء كانت هذه القراءات دقيقة أو تعوزها الدقة، فقد جاءت صورة ماو لدى الشعب الصيني من كفاحه الطويل من أجل قيام «جمهورية الصين الشعبية»، وجهده اللاحق لتوطيد أسس الجمهورية الوليدة.

كرّس الفرنسيان غي غاليس وكلود أوديلو كتابهما هذا الذي يُدعى ماو، لتبيان الوسائل المختلفة التي استعملها الصينيون، في مجالات كثيرة، للإعراب عن تقديرهم لزعيهم التاريخي، إلى أن أصبح أسطورة حيّة. والفرنسي الأول مصوّر محترف، بذل جهداً طائلاً في تأمُّل دور «الصورة» في بناء الأسطورة. أما الفرنسي الآخر فمختص في شؤون الصين -عالم في الصينيات- عمل فترة ملحقاً ثقافياً لبلده في بكين وشنغهاي. رصد المؤلفان، المجال الاجتماعي الذي وزّع صور ماو بأشكال متنوعة مبتكرة: الطوابع، قطع العملة، الأعلام، القمصان، المناديل، الصحون، هدايا التذكار، الأواني الزجاجية، أدوات الشاي، الحفر على الخشب، الرسم بالحبر الصيني، لوحات الرسم، والجداريات...

يتضمن الكتاب أبعاداً ثلاثة: فهو قراءة لشخصية ماوتسي تونغ من خلال الصورة، وقراءة لعلاقة الشعب الصيني بقائده، اعتماداً على الصورة أيضاً. وهو في المقام الأول دراسة في «فاعلية» الصورة»، التي قد ترفع إنساناً معيناً من مقام «الدنيوي» إلى مقام «المقدس». بيد أن السؤالين اللذين ينساهما الكتاب هما: لماذا تستمر صور ماو بعد رحيله وبعد تصفية الثورة الثقافية؟ ولماذا سقطت «الأنظمة الشيوعية» وبقيت صين ماو متطورة ومتصاعدة؟

Guy Galice, Claude Hudlot: Le Mao,

Ed. Du Rouergue , Paris, 2009

ستّون الصين الشعبية قطيعة جذرية مع التخلّف
 
01-Nov-2009
 
العدد 5