العدد 5 - ثقافي
 

الأنا والآخر موضوع قديم، منذ أن انفتح كل مجتمع على خارجه، وتعرّف على آخر يغايره ثقافة أوعرْقاً أو ديناً. غير أنه لم يصبح موضوعاً نظرياً عالي الصوت إلا في العقود الثلاثة الأخيرة. هذه ثلاث روايات عربية، تتعامل مع «الآخر» بوجهات نظر مختلفة.

«أميركا» واللقاء مع الآخر المتعدد

أدرج اللبناني ربيع جابر، منذ أن بدأ الكتابة الروائية ولم يبلغ العشرين، في رواياته المتميزة المتلاحقة، موضوعين أساسيين: تاريخ لبنان في القرنين التاسع عشر والعشرين، وعلاقة أهل لبنان بالآخر، مستعمراً كان أو وافداً متفوقاً، جلب معه السكك الحديدية وبناء الجامعات والمستشفيات، و«لغة منتصرة» ، تُقنع الإنسانَ المهزوم بتعلّمها والاستفادة منها.

يحتل «الآخر» في رواية جابر الجديدة أميركا، مكاناً واسعاً، يفرضه الموضوع الروائي، الذي يسرد رحلة صبيّة قروية لبنانية، من قرية بجوار «عاليه وبحمدون» إلى نيويورك، مروراً بمرسيليا وباريس والهافر و«غوامض المحيط». تُوزع الرحلةُ الطويلة، القائمة في خريف العام 1913، «الآخر» على مجموعات بشرية متنوعة: فهو الفرنسي الذي اجتازت المسافرة أرضَه بالقطار، ونظرت صامتة إلى عالمه الحديث الغريب عنها، وهو الحشد الهائل متعدد الجنسيات الذي قاسمها باخرةً أوصلتها إلى نيويورك، وهو «الأميركي الأصيل» التي عليها أن تعرف لغته إنْ أرادت حياة جديدة، وهو الأميركي حديث العهد الذي خلّف وراءه تركيا أو بولندا أو الأرجنتين، طمعاً بحياة حافلة «تثأر» من جوع قديم، وهو «الإنسان الهجين» ، الذي جاء من ثقافة لم يتحرر منها ودخل إلى ثقافة تختبره ويختبرها، من دون جواب أخير.

تتعين جميع الشخصيات، في رواية أميركا، أنا وآخر في الوقت نفسه، فالأميركي القديم «أنا» في علاقته مع الآخر السوري، حديث الوصول أو قديمه، واللبناني - السوري «أنا» متميزة في علاقتها مع «آخر» متنوع الجذور، يحيل على الأميركيتين وما خارجهما.

رغم متواليات حكائية، تندرج فيها شخصيات متعددة الجنسيات، آثر ربيع جابر الانطلاق من مقولة «جوهر الإنسان»، التي ترى الإنسان كائناً نوعياً - اجتماعياً، يتمتع بصفات «طبيعية»، قبل أن تضيف إليه الأعرافُ والتقاليدُ والمعتقداتُ «تحديداتٍ»، تفصل بين إنسان وآخر، وشعب وغيره. لعل هذا التصور الذي يذيب الهويات المختلفة في «هوية إنسانية متسامحة»، وهي مشتهاة ومرغوبة على أية حال، هو الذي أملى على الروائي اللبناني أن يأخذ بفكرة الجمال، في معناها الفلسفي اليوناني القديم، حيث الجمال هو الخير والحسن والطيبة والتكامل الأخلاقي.

مع ذلك، ساءل الروائي، في عمله الكبير والجميل، حدود «الهوية الإنسانية المنشودة» متوقفاً أمام كوارث الحربين العالميتين الأولى والثانية وأمام قمع «الشعوب الصغيرة»، كما لو كان يميّز بين هوية الإنسان، في الإبداع الأدبي، الذي يكتب عمّا هو قائم وعمّا يجب أن يكون، وبين «الهويات الإنسانية المتحاربة»، التي تضع جوهر الإنسان جانباً، ملبّية نزوعات المصلحة والفائدة وتفوُّق القوي على الضعيف.

توحي رواية ربيع جابر، وهي من أجمل الروايات العربية، في السنوات الأخيرة، بثلاث نتائج: تصور أخلاقي يرى هوية الإنسان في ما أنجزه، وتصوّر تاريخي يرى الهوية في الشروط التاريخية والاجتماعية. وبسبب هذا، وهنا النتيجة الثالثة، فإن «الأنا الخالصة» المتميزة كلياً عن الآخر، لا وجود لها.

ربيع جابر: أميركا، دار الآداب، بيروت، 2009

أمين الزاوي والمسافة بين الآخر و«الضد»

أمين الزاوي روائي جزائري وأستاذ جامعي وعقل مثقف مستنير، يحسن التعامل مع الثقافتين العربية والفرنسية في آن. بيد أن تعدد الصفات الإيجابية لا يضيء قامته الثقافية والروحية، ذلك أن «فتنته»، إن صحت العبارة، ماثلة في أسلوب كتابي يقترب من الفرادة، تتحاور فيه ثقافة عربية قديمة وحديثة ومنظور مشرق، يمسح الغبار عن الكلمات المتداولة ويوقظ فيها حياة جديدة.

ربما تكون روايته الرعشة الصادرة قبل أربع سنوات، مرآة لذلك العقل المركب والأسيان، الذي يمزج الشعر بالنثر، مهجوساً بواقع جزائري، عرف الاستقلال وما تلاه، وعرف منعطفاً فاجعاً، صاغه القتل العشوائي واندحار العقل والدماء المهدورة. تنطوي الرواية، المتمحورة حول امرأة مصلوبة أمام ماضيها القريب، على مستويات عدة، تتأمل الروح الشفافة والحب الغائب والعقول المأفونة، التي كلما رأت ضوءاً انهالت عليه بالرصاص واللعنات.

توحي رواية أمين الزاوي، في علاقتها بالموضوع الذي ندور حوله، بنتيجتين، تقول الأولى: إن «الأنا» و «الآخر» واحتمالات الاعتراف المتبادل بينهما محصلة لعناصر ثقافية، قد تنزع إلى الحَجْر الذاتي والكراهية والطمأنينة الميتة، وقد تستولد من كل سؤال سؤالاً وتحجم عن الإجابات النهائية. وتقول الثانية: تترجم الثقافة، في معناها النبيل، تقدماً في القيم، يحرّض على التسامح والحوار ويشجب الأحكام القاطعة. بسبب ذلك، يجسّد الروائي المسافة بين الأنا والآخر، من ناحية، ويمايز بين «الآخر»، الذي هو امتداد حواري للأنا، و«الضد»، الذي يطلق النار على الكلام، ويرى في ما اختلف عنه شراً مؤداه الوحيد: الجحيم.

«الأنا»، بالمعنى السوي، هي التي تستعير كلاماً من آخر مختلف، وترسل إليه كلاماً هادئاً، تطلُّعاً إلى وضوح منشود يصوغه الطرفان. تبحث هذه الأنا، كما رسمها أمين الزاوي، عن المعرفة في الشرق والغرب، وفي الحاضر والماضي، وتؤالف بين الإيمان الديني وشعرية الوجود ورغبات البشر الطبيعية. بل إن هذه الأنا، التي تمتد في غيرها ويمتد غيرها فيها، قد تكون «غريبة»، إنساناً فرنسياً على سبيل المثال، يتضامن مع المضطهَدين ويحارب الأمية ويقاسم المقهورين سعيهم إلى العدل، ويعلّمهم شيئاً من مبادئ الأمل. والأمر الماثل، في الحالين، هو الحب، الذي تصيّره الأرواح الدافئة عشقاً، وقد توسع آفاقه وآماده اللطيفة وتدعوه: المحبة.

كتبَ أمين الزاوي رواية مقتصدة الكلام كثيفة المعنى، رسمت واقعاً جزائرياً، توالد، بأشكال مختلفة، في الواقع العربي كله. وسّع الروائي، برهافة عالية، تخوم خطابه، فبدأ من الجزائر ووصل إلى «مملكة الروح»، التي تفيض عن الأزمنة والأمكنة.

أمين الزاوي: الرعشة، منشورات الاختلاف، بيروت، 2005

العمامة والطربوش وصنع الله إبراهيم

بعد أن كتب صنع الله إبراهيم أمريكانلي، التي وصف فيها علاقة الأنا المصرية بالآخر الأميركي، يرجع في روايته الجديدة: العمامة والقبعة إلى حملة نابليون بونابرت إلى مصر العام 1798. وإذا كان في عنوان روايته الأولى ما يقول: «أمري كان لي»، احتجاجاً على واقع راهن وضعَ «أمْرَ مصر» في يد غيرها، فالرواية الجديدة، المعتمدة على مادة توثيقية ممتازة، تستعيد واقعة تاريخية، حاول فيها نابليون أن يضع «أمر مصر» في يده وهزم.

تطرح العمامة والقبعة موضوعاً أثار سجالاً بين المثقفين العرب المدافعين عن «التنوير» والحداثة، وخصومهم الذين يرفضون «التغريب» ويتمسكون بـ«الأصالة»، وهذا ما جعل من «العمامة» موضوعاً وإشارة معاً: فهي لباس وبعد ثقافي - حضاري، يشير إلى الهوية والاستقلال، في مواجهة «القبعة»، التي هي لباس «آخر» غير عربي، يعبّر ارتداؤها والقبول بالمصدر الذي جاءت منه عن التبعية وفقدان «الأصالة».

تقوم مواجهة «القبعة» بـ«العمامة» على منطق شكلي ضيق، ذلك أن الأولى لا تحيل على الاحتلال والاستعمار فقط، فهي إشارة أيضاً إلى «المدافع وآلة الطباعة والعلم الذي فكّ ألغاز الكتابة الهيروغليفية»، في حين أن «العمامة» إشارة ساكنة تصف «عمومية عربية» ولا تقول شيئاً محدداً، لأن البشر لا يساوون العمامات.

يتكشّف الفرق بين اتساع الإشارة الأولى وضيق الإشارة الثانية في التحديد الضروري لمعنى «الأنا» و «الآخر». فالآخر الفرنسي، الذي يدك جدران الأحياء المصرية، هو ابن الثورة الفرنسية التي أنتجت أمة ودولة حديثة وعقلانية جديدة، وزوّدت الجندي بعلوم «الكيمياء». على خلاف ذلك، فإن العمامة - الهوية فقيرة التحديد، تحيل على رجل الدين المصري والتاجر الميسور والحاكم العثماني والجيش الانكشاري والمقاتل المملوكي. لهذا يقاتل الجندي الفرنسي تحت إمرة قائده، بينما يفتقر قتال «حشود العمامة» إلى الانضباط، فقتال «العامة» يختلف عن قتال «الحرافيش»، وقتال الطرفين يختلف عن أسلوب «المملوكي»، الذي يتفوق في شجاعته على الجندي الفرنسي ويقصّر عنه في التعامل العقلاني مع الوقائع.

مع أن إبراهيم كعادته دائماً، يبني عمله الروائي على توثيق دقيق، مستفيداً هذه المرة من مراجع كثيرة أهمها يوميات الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار، فإن في العنوان الذي اختاره لروايته ما يثير بعض الأسئلة، لأن صراع مصر مع ما هو خارجها يُفسَّر بالحداثة والتخلّف، ولا يُختصَر إلى شكلين من اللباس.

صنع الله إبراهيم: العمامة والقبعة، دار المستقبل العربي، القاهرة، 2008

المزيد من مقولة الأنا والآخر في الكتابة الروائية
 
01-Nov-2009
 
العدد 5