العدد 3 - محلي
 

بدا الرجلُ الريفيُّ منزعجاً وغاضباً، وهو يقول: “نفسي أشوف صالون... والله ما بِلتام فيهم سيدنا... لو محلُّه بَوَدّي جرّافات الجيش تهدْهُم ونخلص”. يسترعي الانتباهَ أن هذا الريفيّ، ومثله معظم المدعوين على سهرة عشاء في مدينة صغيرة قريباً من العاصمة، يعتقدون فعلاً أن هنالك أمكنة محددة وثابتة في عمان تُدعى صالونات، تأتي إليها شخصيات سياسية وصحفية بهدف “بث الإشاعات والتخريب”.

فقد قفز إلى السطح مجدداً ما اصطُلح على تسميته في البلاد: ظاهرة الصالونات السياسية، بعد أن هاجمها الملك شخصياً. وكان رأس الدولة أشار إلى هذه الظاهرة أكثر من مرة، في مداخلاته العلنية، آخرها عندما توجّه إلى القيادة العامة وتحدث عن مرتادي هذه الصالونات من “أصحاب الأجندات الخاصة”. سلبياً لم تكن نبرة الملك فقط هي الملفتة للنظر، بل أيضاً المكان الذي اختار أن يوجه منه الرسالة مرتدياً اللباس العسكري الميداني، مع ملاحظة أن الاجتماع كان مقتصراً على الرتب العليا في القوات المسلحة، ولم يحضره أيٌّ من قيادات الأجهزة الأمنية الأخرى، مثل المخابرات، والأمن العام والدرك، كما كان لافتاً غياب كل من رئيس الوزراء ووزير الداخلية.

يشكل حالة فريدة في المنطقة، فالظاهرة موجودة في معظم دول الخليج العربي، إضافة إلى اليمن، وظاهرة “الديوانية” في الكويت مثلاً أكثر ترسخاً وثباتاً من ظاهرة الصالونات في دول أخرى.

القواسم المشتركة بين هذه الدول، أن الحكم فيها، باستثناء اليمن، حكمٌ ملكي، أو أميري، وراثي؛ وأن هناك غياباً لحياة سياسية مؤسسية ومؤطرة. فهذه الدول لا تفتقر إلى أحزاب سياسية مؤثرة في الحياة العامة فحسب، بل وتغيب عنها حلقات التأطير الوسطى، مثل النقابات المستقلة، واتحادات الطلبة، والنقابات المهنية، والصحافة المستقلة التي تتطلب سقفاً عالياً من الحرية، في مقابل قوة نسبية تتمتع بها التكتلات العشائرية.

الظاهرة موجودة في الأردن فعلياً منذ نهاية عهد الإمارة، إذ كان يلتقي مجموعة من السياسيين في منزل رئيس وزراء سابق، للحديث في الشؤون العامة، وكان عددهم محدوداً جداً.

أهم صالون سياسي عرفته البلاد، هو صالون سليمان النابلسي، عندما أصبح رئيساً للوزراء العام 1956، وكان أقرب إلى البيت المفتوح open house، منه إلى الصالون السياسي بالشكل الذي اتخذته الظاهرة لاحقاً، إذ يأتي السياسيون إلى منزل النابلسي في الصباح لتناول القهوة، ويعودون مساء هم أنفسهم أو غيرهم. من أبرز الشخصيات التي واظبت على هذا الصالون: عبد الحليم النمر، صالح المعشر، شفيق إرشيدات، عبد الرحيم الواكد، صلاح طوقان، بهاء الدين طوقان، عيسى مدانات، جعفر الشامي، يعقوب زيادين، عاكف الفايز، سليمان الحديدي، عبد القادر طاش، فؤاد نصار، ووصفي التل عندما يكون خارج الحكم، بحسب ما أفاد به لـ”ے” فارس النابلسي، نائب رئيس الوزراء في حكومة علي أبو الراغب.

بقي الصالون قائماً على هذا الشكل إلى أن توفي النابلسي، فورث عنه هذه الظاهرة ابنه فارس، لكن اللقاءات اقتصرت على فترة الصباح، وحُددت ابتداء من السابعة والنصف إلى العاشرة والنصف، وما يزال “البيت المفتوح” قائماً حتى اليوم، وتواظب شخصيات سياسية على ارتياده، مثل: ممدوح العبادي، مازن الساكت، غالب الزعبي، زهير أبو الراغب، خالد عرار، وصالح وريكات.

وصفي التل كان أيضاً صاحب صالون سياسي، يفتح بيته يوم الجمعة للأصدقاء والحلفاء من السياسيين والمثقفين، وكان الحديث دائماً مؤطراً، وتناقَش فيه قضايا راهنة حينئذ. وأثناء غياب وصفي، لسفر أو غيره، تظل مضافته مفتوحة، ويستقبل الناس نيابةً عنه فالح التل.

بعد رحيل وصفي، انتقل الصالون إلى منزل شقيقه مريود في الكمالية، حيث كان يلتقي بالناس صبيحة كل جمعة، من العاشرة والنصف إلى الواحدة، وكان يواظب على الحضور أحمد فاخر، سعيد التل وآخرون.

الصالون الأشهر في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، ذلك الخاص بجمال الشاعر، إذ كانت تُعقد جلسات تُثار فيها “قضايا حساسة ومهمّة في فترة الأحكام العرفية حول الدستورية والديمقراطية وغيرها”، وفقاً لمسؤول بارز في المخابرات العامة آنذاك طلب عدم نشر اسمه. يضيف المسؤول إن جمال الشاعر “كان الأنشط في هذا الصالون، الذي أصبح مصنعاً لتفريخ الوزراء”، في إشارة واضحة إلى أن قيادات بارزة في الدولة كانت تراقب ما يجري، مستفيدة من الأفكار التي يناقشها سياسيون بارزون يحضرون تلك الجلسات، كما أن الدولة كانت تعمل جادة على احتواء الظاهرة من خلال توزير بعض هذه الشخصيات، وكان من المواظبين على الحضور علي السحيمات.

لكن زخم صالون الشاعر انتهى تقريباً في مطلع التسعينيات، كما حدث لصالونات سياسية أخرى في المرحلة نفسها.

بداية التسعينيات شهدت ولادة صالون عبد السلام المجالي، فعندما تشكلت لجنة الميثاق الوطني، كما يقول وزير التعليم العالي الأسبق سعيد التل، الذي كان من مرتادي صالون وصفي، ومن بعده مريود، شعر الوسطيون في لجنة الميثاق أن عليهم أن يتحاوروا في ما بينهم، كما يفعل الإسلاميون والقوميون واليساريون، لهذا تمّ الاتفاق على الاجتماع في منزل عبد السلام المجالي. “فعلاً، بدأنا عقدَ الاجتماعات في منزل عبد السلام المجالي كل يوم اثنين”، وأيامها كان ابنه شادي، وصخر ابن مروان دودين، شابين يافعين يتولّيان تقديم الكنافة والقهوة والشاي والتمور ضيافةً للزوار.

بعد انتهاء اللجنة من صياغة الميثاق، استمر الصالون، وطُعّم بشخصيات من خارج لجنة الميثاق، وكانوا يناقشون كل يوم اثنين “قضية ملحّة”، وأحياناً كان عبد السلام المجالي يطلب من إبراهيم بدران تلخيص ما جرى في صفحاتٍ تُسلَّم إليه تمهيداً لرفعها “إلى فوق”. الذين كانوا يواظبون على الحضور، لم يكونوا يعلمون إن كان المجالي يرفع هذه الأوراق فعلاً، وما هي ردود الفعل عليها. من بين مرتدي هذا الصالون: مروان دودين، إبراهيم بدران، منذر حدادين وجواد العناني.

يقول أحد هؤلاء الحضور، وهو وزير سابق وعين حالي، طلب عدم ذكر اسمه، إن هذا الصالون كان جاداً، تناقَش فيه قضايا لها علاقة بالسياسات العامة، مضيفاً: “كنا لا نشعر بالراحة إذا حضر جلسة الاثنين شخصٌ من غير المشاركين الفعالين فيها، كأن يكون قريباً أو نسيباً للباشا، أو زائراً حضر بالصدفة”.

الوزير السابق يستذكر مخاوف كانت تملّكت مرتادي هذا الصالون بعد مفاوضات مدريد، من انقسام محتمل للوفد المفاوض المشترك إلى أردني وفلسطيني. “كنّا غير متأكدين من أن الفلسطينيين، وبسبب ظروفهم الموضوعية المتمثلة في عدم وجود دولة، يمكنهم أن يشكلوا وفداً يكون قادراً من ناحية فنية وسياسية على مفاوضة إسرائيل”، لكن هذه المخاوف زالت، كما يقول، عندما زار السياسي الفلسطيني البارز آنذاك نبيل شعث عمّان، فتمت دعوته إلى جلسة الاثنين في منزل المجالي. “جاء شعث، وألقى مداخلة أدخلت الاطمئنان إلى قلوب الحاضرين” بحسب المصدر نفسه.

بعد أن أصبح عبد السلام رئيساً للوزراء، تحول الصالون إلى لقاء أسبوعي في جمعية الشؤون الدولية، يُعقد كل ثلاثاء في السادسة مساء، إذ يلتئم الحضور لمناقشة موضوع معين، وفي لقائهم الأخير تمت دعوة وزير الأشغال الأسبق، والشخصية الفلسطينية البارزة منيب المصري، الذي حضر مع اثنين آخرين وتحدثوا في مسألة “التوفيق بين فتح وحماس”.

اندماج عدد كبير من الأحزاب الوسطية تحت لواء “الحزب الوطني الدستوري”، انبثقت فكرته أيضاً من صالون سياسي، فقد بدأت الفكرة بعد لقاء جمعَ فايز الطراونة ومروان دودين في مكتب هاني الناصر، وما جمعَ هؤلاء عبارة شهيرة أطلقها الملك الحسين: “الزحام يعيق الحركة”، وكان يقصد بذلك عدد الأحزاب الذي كان زاد على الثلاثين حينئذ، مطالباً إياهم بصورة غير مباشرة بالاندماج، فتوحدوا فعلاً في ما سُمّي “مجموعة السبعين “ التي ترأسها لاحقاً عبد السلام المجالي، وانتهت المبادرة بعقد مؤتمر عام أُشهر خلاله الحزب الوطني الدستوري برئاسة عبد الهادي المجالي.

الملفت للنظر أن شخصيات يسارية بارزة ساهمت في هذا النشاط “الصالوني”. هناك مثلاً سعدي دبور، الذي كان في منتصف التسعينيات مقرباً من الجبهة الشعبية، ولم يكن الحضور في صالونه مقصوراً على شخصيات يسارية، لكن آخرين من توجهات مختلفة كانوا يواظبون على الحضور، وكان الملتقى يطمح إلى التأثير في السياسات المختلفة، بحسب الصحفي محمد خروب، الذي كان أحد رواده. يستذكر خروب في هذا السياق إرسال برقيتين حول العلاقات الأردنية الفلسطينية، العام 1995، إلى زيد بن شاكر، رئيس الوزراء آنذاك، والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.

في مرحلة الأحكام العرفية، وبدايات الانفراج السياسي، أسهم الصالون السياسي في الأردن إلى حد كبير في بلورة أفكار محددة حول السياسات العامة، وخلق إجماعات سياسية حول قضايا مهمة، وهي إجماعات ظهرت إلى العلن في وثيقة “الميثاق الوطني”، وفي أدبيات التجمعات الحزبية اللاحقة، وبحسب رئيس الديوان الملكي الأسبق عدنان أبو عودة، فإن الصالونات التي نشطت منذ ستينيات القرن الماضي، سدّت فراغاً سياسياً، سببه حظر الأحزاب –باستثناء الإخوان المسلمين- بين العامين 1957 و1992. لكنها بدأت تشهد تطورات سلبية، عندما تحوّلت بحسب أبو عودة، إلى دواوين تطحن “ثرثرة سياسية” تلامس حدود “النميمة والاغتياب”، وصارت في وقتنا الحاضر “بعيدة عن التفاكر السياسي الذي يُفترض به أن ينشأ في بيئة ينتظمها الحوار والشفافية والمكاشفة”.

ظاهرة النميمة حاضرة في الصالونات السياسية منذ نشوئها، أبطالها أولئك الطامحون إلى المناصب، كما يقول الوزير السابق مروان دودين، أحد المواظبين على حضور هذه اللقاءات منذ نهاية الستينات، لكن الفرق هو “أن الظاهرة كانت في السابق محدودة جداً”.

حالياً، لم يعد هناك صالون سياسي بالمعنى الذي كان موجوداً في السابق. ما هو قائم الآن جلسات وسهرات ودعوات على العشاء، يحضرها وزراء حاليون وسابقون ونواب ورجال أعمال، ويتواجد فيها صحفيون بكثافة، من الصحف والمواقع الإخبارية الإلكترونية، وهي كما يقول أبو عودة، جلسات يطغى عليها تضخيم أخطاء من هم في الحكومة، وإطلاق شائعات تحاول اغتيال شخصياتهم، على أمل إسقاطهم، تمهيداً لدخول “محاسيب” مطلقي الشائعات إلى الحكومة المقبلة.

عينٌ طلب عدم نشر اسمه، يؤكد أنه لم يلفت نظره خلال العقد الماضي، فكرة أصيلة واحدة لدى أيٍّ من المشاركين في هذه الصالونات، يمكنها أن تعمل على تدعيم الإصلاح السياسي والاقتصادي في البلاد.

صحفي يُدعى إلى عدد كبير من هذه اللقاءات، اشترط عدم الإفصاح عن اسمه، يقول إن الغيبة والنميمة هي المادة الرئيسية في هذه الجلسات، وكثيراً ما يتحدث مسؤولون سابقون عن “خراب البلاد، وضياع الفرص، لأن أحداً لم يعد يأخذ بآرائهم، وأن من جاء من بعدهم لا يبني على إنجازاتهم”.

ثمة جانب بدأ يتضح منذ نهايات عهد الملك حسين، هو تدخُّل المخابرات العامة في الحياة العامة، وقد وصل هذا التدخُّل ذروته صيف العام 2008 عندما كانت المعركة السياسية على أشدها بين مدير المخابرات العامة السابق محمد الذهبي، والرئيس السابق للديوان الملكي باسم عوض الله، وكانت أدوات هذه المعركة، الإعلام، الشائعات، وجلسات عشاء تُستهلك فيها كميات كبيرة من اللحوم والويسكي للّذي يرغب، والمشروبات الغازية لمن لا يشرب الويسكي، وقد أُنفقت أموال على شكل أعطيات وهدايا على عدد من الصحفيين والكتّاب لتجنيدهم في المعركة.

وفي إشارة إلى التدخل الواسع لدائرة المخابرات العامة، أفاد عدد ممن واظبوا على حضور دعوات العشاء والسهرات، أنهم كانوا يعرفون معرفةَ اليقين أن “الجلسة مغطّاة”، وأنهم كانوا يتلمسون الاتجاه العام للدولة خلالها.

الذين انتقدهم “جلالة الملك” هم أصحاب “جلسات النميمة والاستغابة” بحسب رئيس الوزراء الأسبق فايز الطراونة، هؤلاء جميعهم، هم من أزلام الحكم، تربّوا وترعرعوا وأثروا تحت إبط الدولة، وهم ما زالوا يطمحون إلى المزيد.

الصالون السياسي الذي تحول إلى مجلس للنميمة، سيبقى ظاهرة في الأردن، في ظل غياب حقيقي على الأرض لأي إنجاز حكومي، الإنجاز الذي يتمثل في إقامة مشاريع تساهم في خفض معدلات الفقر والبطالة، وفي إدخال إصلاحات سياسية جذرية على مجموعة من التشريعات التي تتعلق بتوسيع المجال العام، وتفعيل سلطة القانون، وتغيير قانون الانتخاب، بحيث يتمكن المواطنون من انتخاب ممثلين حقيقيين عنهم يدافعون عن مصالحهم.

مع ذلك، فإن هناك ما يمكن دعوته “صالونات شبابية” تنتشر الآن في عمان، حيث تواظب مجموعات متفرقة من الشبان على الاجتماع، ويتباحثون في قضايا تهمهم، ومن أبرزها صالون طارق زريقات في جبل عمان، الذي يجتمع فيه شبان وشابات، يتباحثون في قضايا تبدأ من المشاكل الخدماتية في المناطق التي يسكنوها، إلى قضايا سياسية مثل العلاقات الأردنية الفلسطينية.

الصالونات السياسية: غياب الأفكار الأصيلة
 
01-Sep-2009
 
العدد 3