العدد 5 - حريات | ||||||||||||||
جاءت عاملة الرعاية كي تنظّف حسنة، وعندما رفعت الغطاء عنها، ملأت الغرفةَ في الحال رائحةٌ خانقة. كان على الفتاة العشرينية التي تحاول تنظيف المرأة وتغيير ملابسها، التغلب على أمرين في وقت واحد: إحساسها بالغثيان نتيجة اضطرارها للتعامل مع غائط امرأة في الثالثة والسبعين من العمر، وتحمُّل واحدة من نوبات صراخها التي تفتت الأعصاب. حسنة هي النزيلة الأحدث في دار المسنّين هذه. قبل ثلاثة أسابيع أحضرها اثنان من أبناء أخيها الذين كانت تقيم معهم، من مستشفى البشير حيث أجريت لها عملية تغيير مفصل في رجلها إثر وقوعها، وإصابتها بعجز تام. إذ حملوها من المستشفى إلى دار الرعاية مباشرة، وأخبروها في الطريق أنها ذاهبة لتكمل علاجها في مستشفى خاص، لكنها عندما وصلت وبدأت تتلفّت حولها شكّت في الأمر، فسألت إحدى العاملات: «كإنها هاي دار المسلمين»، قاصدة دار المسنّين، وعندما أجابتها العاملة بالإيجاب انهارت وبدأت بالصراخ والبكاء. وصارت تارة تشتم أبناء أخيها، وتارة أخرى تستعطفهم كي يعيدوها معهم، لكنهم تركوها بعد أن قالوا لها: «رَح تتعودي يا عمة». حسنة واحدةٌ من 316 مسنّاً يتلقون الرعاية في دور رعاية المسنّين العشر في البلاد، خمسٌ منها تطوعية تُديرها جمعيات خيرية، والخَمسُ الأخرى مشاريع ربحية يديرها القطاع الخاص، حاول تقرير صدر عن المركز الوطني لحقوق الإنسان في أيلول/سبتمبر 2009 إلقاء الضوء على أوضاعها. تقرير المركز الذي أعدته المحامية كريستين فضول، أورد الكثير من الانتقادات حول واقع رعاية المسنّين في الأردن، من أبرزها غياب دار رعاية حكومية للمسنّين، واقتصار دور وزارة التنمية الاجتماعية على الإشراف على الدُّور الخاصة الموجودة، والاكتفاء بدفع مبلغ يرواح بين 170 و230 ديناراً شهرياً، عن كل مسنّ فقير تحوّله إلى الدُّور التطوعية، في وقت تُراوح فيه تكلفة إيواء المسنّ في دُور القطاع الخاص بين 200 و1000 دينار شهرياً. التقرير انتقد التوزيع الجغرافي لدور الرعاية التي تحظى عمّان وحدها بثمانٍ منها، فيما توجد واحدة في الزرقاء وأخرى في الفحيص. وذكر التقرير أن مرافق بعض هذه الدور تعاني من الضعف، كونها لم تصمَّم لغرض إيواء المسنّين، كما انتقد غياب الأنشطة الترفيهية واقتصارها على مشاهدة التلفزيون. من الأمور اللافتة التي كشفها التقرير عدم وجود معايير واضحة للكادر الوظيفي من حيث التدريب والمؤهلات العلمية، رغم تأكيده أن عدد العاملين في هذه الدور، البالغ 140 عاملاً، ينسجمُ مع المعايير الدولية التي حددت النسبة بعامل واحد لكل ثلاثة مسنّين. غياب التأهيل تؤكده إيمان، وهو اسم مستعار لعاملة في إحدى دور الرعاية. تعمل إيمان منذ أربعة أعوام في مجال الرعاية الشخصية للمسنّين، وتتمثل مهامها في «تحميم» المسنّين وتغيير الفوط والملابس وتقديم الطعام والشراب، ومرافقة المرضى منهم عندما يُنقلون إلى المستشفيات. إيمان لم تتلقَّ أيًّ تدريب من أيِّ نوع، وهي «علّمت نفسها بنفسها» من خلال الخبرة واستنباط وسائل للتعامل مع المسنّين، وهو أمر ما زال حتى بعد أربعة أعوام شاقاً جداً «في سنّهم وظروفهم، يعود المسنون أطفالاً، يجب إطعامهم وتنظيفهم وتغيير فوطهم، وبعضهم شديد الانفعال، يصرخ ويشتم شتائم قذرة طوال الوقت». تقول إيمان إن أصعب المهام هي «تحميم» المسنّ، إذ يتطلب قوة عضلية كبيرة، بخاصة أن بعضهم ثقيل الوزن، أما أصعب أنواع المسنّين فهم «المصابون بالخرف أو بأمراض نفسية». وهي تلفت إلى ما لم يتطرق إليه تقرير المركز الوطني لحقوق الإنسان: الرواتب التي يتقاضاها العاملون في هذه الدور، ومدى تناسبها مع ساعات العمل، ومع الطبيعة الشاقة لهذه المهنة. إيمان، تعمل في ما يسمّى «الشفت المسائي» الذي يبدأ في الثالثة عصراً، وينتهي في السابعة من صباح اليوم التالي، بمعدل ست عشرة ساعة يومياً، براتب 150 ديناراً، ولا تتلقى أي أجر عن ساعات العمل الإضافي، ولا يُسمح لها إلا بيوم إجازة واحد في الأسبوع. الفكرة الشائعة عن دور المسنّين، أنها أماكن إيواء يُلقي فيها الأبناء العاقون آباءهم، لكن هذا ليس صحيحاً دائماً، فهناك من جاء إليها بإرادته، ودون رضا عائلته. محمد علي الحوامدة، 73 عاماً، مثال على ذلك. حوامدة، الموظف السابق في شركة الكهرباء، جاء إلى الدار لأنه يحتاج إلى رعاية دائمة لا يستطيع ابناه توفيرها له: «أحدهما مريض بالسكّري ووضعه صعب، والثاني لديه خمسة أبناء، ويضطر للذهاب إلى عمله، وأنا أحتاج إلى من يساعدني حتى في دخول الحمّام». بعد 12 عاماً هي مدة إقامته في الدار، ما زال ابناه يسعيان لإقناعه بالعودة إلى المنزل، لكنه مُصِرّ على البقاء، وهو يتلقى زيارات بشكل متواصل منهما ومن أقاربه، وحتى من طليقته التي انفصل عنها قبل 15 عاماً. يقول: «أصلاً هي بنت خالتي قبل ما تكون زوجتي». وجود حوامدة في دار المسنّين برهان على أنها ليست بالضرورة رجساً خالصاً كما هي الصورة السائدة بين الناس، وهو أمر ينبّه إليه مؤيد سلامة الذي لديه والدة مسنّة ومصابة بشلل نصفي. «ذهاب المسنّين إلى دار رعاية ليس خطأ في حد ذاته، لأن الأهل في حالات كثيرة غير قادرين على توفير الرعاية التي يحتاجها المسنّ. الخطأ هو أن يتعرض هذا المسنّ إلى الإساءة، وإلى انتهاك حقوقه الأساسية، سواء تم ذلك في دار الرعاية أو في منزل العائلة». لكن عجز الأهل عن تقديم الرعاية ليس دائماً السبب في تنصُّلهم من المسؤولية. إنعام التي تعمل منذ سبعة أعوام مشرفةً في واحدة من دور الرعاية، تقول إنه «في حالات كثيرة لا يكون مطلوباً من الأهل سوى زيارة المسنّ، والكلام معه وتطمينه، لكن حتى هذا فإن كثيرين يبخلون به». لذلك، شدد التقرير في إحدى توصياته على ضرورة تضمين التشريعات بنوداً تحوّل “مفهوم الحماية الاجتماعية للمسنّين من واجب أسري مفترَض، إلى توفير الدعم المادي والمعنوي والإنساني كحقّ من حقوقهم”. الفكرة النمطية الأخرى عن دور المسنّين أن نزلاءها جميعاً من المسنّين، وهذا ليس صحيحاً أيضاً، فكثير منهم في أعمار صغيرة نسبية، ولكلٍّ منهم قصة. أمل مثلاً، عمرها 46 عاماً، دخلت الدار قبل ستة أعوام، لأنها بحسب روايتها لم تنسجم مع زوجة أبيها، كما أن أحداً من زوجات إخوتها وأزواج أخواتها لم يقبلها في بيته. المشرفة على الدار أوضحت لـ ے أن أمل مصابة بالفصام، وقد أحضرها أخ لها يتحمل تكاليف إيوائها، لكنه لا يزورها نهائياً. أما سمر، 48 عاماً، المقيمة في الدار منذ نحو عامين، فقد انفصلت عن زوجها قبل سبعة أعوام، بعد زواج استمر عقدَين، وأثمر أربعة أبناء، أكبرهم عمره 24 عاماً، والأصغر 18 عاماً. سمر التي تحمل درجة البكالوريوس في التجارة، ولم يسبق لها العمل في أي وظيفة لأن زوجها “ما كان بَدّو”، عادت بعد طلاقها إلى منزل أهلها، لكنها ظلت في حالة مشاحنات مستمرة معهم، وزاد الأمر سوءاً بعد إصابتها بتصلب لويحي جعلها بحاجة إلى الرعاية، عندها قرر أهلها إلحاقها بالدار. أبناء سمر يزورونها مرة كل شهر، وهي تقضي وقتها مستلقية على السرير تدخن، وتشاهد التلفزيون، وتنتظر أن يحقق ابنها الأكبر الذي يعمل طبيب أسنان وعده بأن يستأجر لها منزلاً عندما يتحسن وضعه المادي. «اللّي مالو ظهر.. بموت قهر». إذا كان لعبارة أن تلخّص حال المسنّين في الأردن، فهي بلا شك هذه العبارة التي قالها عدلي راغب، 80 عاماً، وهو يروي مأساته الشخصية. عدلي الذي عمل سائق شاحنة على الخطوط الخارجية، فقدَ في يوم واحد عائلته المكونة من زوجته وأربعة أبناء. إذ ذهبوا في زيارة إلى مدينة نابلس، وهناك أجهزت قذيفة إسرائيلية على حياتهم، وتدمير البيت الذي أقاموا فيه. لم يتمكن عدلي، بحكم شيخوخته، من تحديد زمن الحادثة، لكن المشرفين على الدار أكّدوا صحتها، وقالوا إنه أقام وحده لفترة طويلة، وإن فاعلي خير تكفّلوا بنفقات معيشته وأجرة المنزل، إلى أن حُوّل قبل أربعة أعوام من وزارة التنمية الاجتماعية إلى الدار. يزور عدلي شخصٌ واحد هو زوج ابنة عمته، كما حضر إلى الدار قبل أشهر صاحب صالون حلاقة في الشارع نفسه الذي كان يقيم فيه عدلي، واصطحبه معه إلى منزله حيث أمضى عنده ثلاثة أيام، عاد بعدها إلى دار المسنّين برفقة وحدته وألمه. |
|
|||||||||||||