العدد 5 - أفق | ||||||||||||||
في هذا العمود نفسه، وقبل نحو شهرين، كنت قد أثرتُ قضية المسؤولية عن جرائم الحرب التي ارتُكبت أثناء أزمة غزة. وكتبتُ حينها إن مكتشفات وتوصيات بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة حول أزمة غزة، والطريقة التي تلقتها بها إسرائيل وحماس والولايات المتحدة والآخرين، سوف تكون هي المفتاح لتحقيق العدالة. اليوم، ما زالت المسألة غير محلولة بعد، لكن تقرير اللجنة وضعَ مسألة المسؤولية على المائدة بطريقة غير متوقَّعة. ويعود الفضل في ذلك إلى تكامل التقرير وشموليته، رغم العداء الإسرائيلي، والاستجابة الأولية المخيّبة للسلطة الفلسطينية، والرفض المؤسف للولايات المتحدة. اللجنة التي ترأسها القاضي ريتشارد غولدستون، كانت خلصت إلى أن كلاًّ من إسرائيل وحماس كانتا مسؤولتين عن ارتكاب انتهاكات جدّية لقوانين الحرب، والتي ارتقت في بعض الحالات إلى مستوى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وحثّ التقرير كلا الطرفين على إجراء تحقيقات محايدة وشاملة في المزاعم التي أُثيرت حول الانتهاكات خلال الأشهر الستة المقبلة، وإلى توجيه اتهامات أو اتخاذ إجراءات تأديبية بالشكل المناسب. ولدى ملاحظة أن أياً من الطرفين لم يعبّر عن ذلك المزيج من الإرادة السياسية والقدرة المؤسسية على إجراء مثل هذه التحقيقات، طلبت اللجنة من مجلس الأمن مراقبة انصياعهما للتوصيات، وإحالة الأمر، في حال فشلت إسرائيل وحماس في اتخاذ هذه الإجراءات، إلى محكمة الجرائم الدولية. عمدت كل من إسرائيل وحماس إلى انتقاد التقرير، بسبب عدم تفريقه بين تصرفات الضحايا والمعتدين. من جهته، رفض فريق أوباما التقرير من أساسه، بوصفه «غير متوازن» و«غير مقبول». ولم تعارض الدول الأوروبية نهج الإدارة الأميركية. وعندما بدا في بواكير تشرين الأول/ أكتوبر أن مجلس حقوق الإنسان ربما يمرر قراراً يرعاه الفلسطينيون، يعترف بالتقرير «بكليته»، مارست واشنطن ضغوطاً كثيفة على رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، فأوعز إلى وفده في جنيف بسحب القرار فجأة. وقد تسبب ذلك بثوران عاصفة سياسية في أوساط الفلسطينيين، فأقدمت السلطة على تراجع آخر، داعية إلى عقد جلسة خاصة لمجلس حقوق الإنسان، يكون هدفها، بحسب وزير خارجية السلطة رياض المالكي «تصويب سوء الأداء الذي كان قد حدث في المجلس». وقد اجتمع المجلس مرة أخرى، ومرر في 16 تشرين الأول/أكتوبر قراراً اعترف بتقرير غولدستون، وأحاله إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة والأمين العام، لدراسته. ظل موقف إدارة أوباما مؤسفاً في هذا الصدد. أولاً، عمدت الإدارة إلى ترويج فكرة تقول إن إجراءات العدالة وتحديد المسؤولية تعطّل التقدم في «عملية السلام». يتناقض هذا القول مع التجربة في كل مكان آخر، التي تكشف أن الهجمات ضد المدنيين تشعل جذوة التطرف في كلا الجانبين وتحدّ من آفاق السلام. ثانياً، تبدو الإدارة كأنها تقرّ بمزاعم إسرائيل القائلة إن قوانين الحرب تصبح غير ذات صلة عندما تقوم «الديمقراطيات» بمكافحة «الإرهاب». وهنا أيضاً، يتناقض تقليل الولايات المتحدة من شأن التقرير مع رسالة الإدارة، بما انطوت عليه من نبذ التعذيب ومن الجهود المبذولة لإغلاق سجن غوانتانامو. وأخيراً، يشكل موقفها المتمثل بأن موضوع تحديد المسؤولية يصبح أقل أهمية عندما يتعلق الأمر بحلفاء وثيقين مثل إسرائيل، مثالاً على عدم ثبات الموقف، الذي سيعيق السعي نحو تحقيق العدالة في الأماكن الأخرى. يبدو المسار واضحاً أمام كل من حماس وإسرائيل بغية تجنب عرض القضايا المعنية أمام محكمة دولية. أما ما تحتاج الأمم المتحدة إلى القيام به، فهو تشكيل هيئة إشراف ومراقبة للتحقق مما إذا كان الطرفان يتّخذان خطوات موثوقة في هذا الاتجاه. كان المتحدث الخاص باسم الولايات المتحدة قال في كلمة ألقاها في الجلسة الخاصة في جنيف، إن الدعوات إلى تحديد المسؤولية «لا يمكن تجاهلها وإبطالها»، وليس معروفاً ما إذا كانت واشنطن قد حاولت استخدام تصويتها بـ«لا» في جنيف لدعم اتفاق إسرائيلي ما على إجراء تحقيقات جدّية. ووفقاً للمتحدث الرسمي باسم الخارجية البريطانية، فقد ربط رئيس الوزراء غوردون براون التصويت بالرفض، باستعداد إسرائيل لتشكيل لجنة تحقيق مستقلة، وتخفيف الحصار على غزة، وتجميد المستوطنات. لم يكن مفاجئاً أن تعمد الدول العربية الأعضاء في مجلس حقوق الإنسان إلى دعم طلب السلطة الفلسطينية عقد جلسة خاصة، وأن تصوت لصالح القرار. ينبغي على هذه الدول أن تستخدم الخطوات اللاحقة في الجمعية العامة لتوضح أن مخاوفها إزاء انتهاكات قوانين الحرب والحصانة تمتد إلى ما وراء إسرائيل. لعل إحدى الطرق التي يمكن استخدامها هي الذهاب مباشرة إلى تسجيل نقطة تقول إنه ليست هناك قضية يمكن أن تبيح الهجمات التي تستهدف المدنيين أو تُلحق بهم أضراراً بليغة. كما ينبغي على هذه الدول أن تعرض استعدادها لمساعدة حماس في إجراء التحقيقات التي قالت إنها ستُجريها. ويظل ذلك أمراً بالغ الأهمية، ليس لأنه مطلوب وفق مبادئ القانون الإنساني الدولي، وإنما لأنه يُرجَّح أن لا تثمر الجهود المبذولة لِعَدّ إسرائيل مسؤولة، في حال استطاعت الأخيرة أن تمرر كل ذلك بوصفه جهداً يُبذل من طرف واحد. |
|
|||||||||||||