العدد 5 - من حولنا
 

«العثمانية الجديدة» عبارة شائعة على نحو أكثر تكراراً في تركيا اليوم. وهو تعبير يبدو مرادفاً لمفهوم «تركيا العائدة». فقد أصبحت تركيا تحتل الترتيب 16 بين أكبر اقتصادات العالم، والسابع في أوروبا، وهي عضو في مجموعة العشرين الكبار، لتكون بذلك قوة عائدة وبلداً بالغ الحيوية، لا يستطيع أن يظل ملتزماً بالبقاء داخل حدوده الخاصة.

مع ذلك، لا يمكن لهذه الحيوية أن تعني بالضرورة تجديداً للمخططات التوسعية. إذ تتحرك تركيا في إطار خطوطها الكنتورية الطبيعية في منطقة الشرق الأوسط، ليس بوصفها بلداً رجعياً، وإنما على أنها قوة إقليمية متنامية لديها مصلحة في استقرار المنطقة، الذي يخدم متطلبات اقتصادها النامي.

لكن الأوروبيين الذين تطرق تركيا بابهم يَبدون مسكونين بالقلق، وبشكل خاص من صعود «العثمانية الجديدة». ليس الأتراك هم من نحتوا هذا المصطلح ليكون مؤشراً على تطلعات إمبريالية وُلدت لديهم من جديد مثلاً، بل نحته الأوروبيون الذين يخالطهم إحساس بعدم الارتياح، وهم يثيرونه في كل مناسبة من أجل اسكتشاف ما إذا كانت تركيا تنساق مبتعدة عن العالم الغربي باتجاه الشرق الأوسط المسْلم والفوضوي.

في الاجتماع السنوي لمؤتمر البوسفور، وهو تجمع لرجال الدولة والخبراء الأتراك والأوروبيين ينعقد لمناقشة أوضاع الشؤون التركية-الأوروبية في العمق، ويُقام بشكل دوري في تشرين الأول/ أكتوبر في مواقع عثمانية قديمة على شواطئ البوسفور (عُقد هذه المرة في قصر تشيراغين)، أثار مسؤول أوروبي ذلك السؤال المشروع: «هل تتحرك تركيا مبتعدةً عن الاتحاد الأوروبي الديمقراطي، وتتجه نحو الشرق الأوسط غير الديمقراطي من أجل استبدال اتحاد شرق أوسطي بالاتحاد الأوروبي؟».

في الغالب، يبدو هذا سؤالاً سخيفاً، إن لم يكن مثيراً للحفيظة، بالنسبة لمعظم الأتراك –باستثناء المتحمسين العلمانيين من النخبة الجمهورية التقليدية. مع ذلك، وبفضل الإحساس المتنامي بالثقة في النفس –يمكن تسمية ذلك: نهوض نزعة الاعتداد العثمانية الجديدة- اختار كاتب هذه السطور أن تكون إجابته أمْيَل إلى اللعب على المفارقة: «تركيا، ولو أنها لا تتسم بالكمال، تظل بلداً تعددياً ديمقراطياً، وهي ملتزمة بأن تبقى كذلك. وتبقى الديمقراطية في تركيا واحدة من أكثر عناصر تركيا الحديثة قبولاً بالنسبة لجيرانها في الشرق الأوسط، فما الخطأ بأن تكون لها علاقات وثيقة جداً بدول الشرق الأوسط؟ فبعد كل شيء، كنا قد عشنا معهم جميعاً تحت سقف الدولة نفسها طوال أربعة قرون، وتقاسمنا الجغرافيا نفسها وبطاقات الهوية نفسها».

لم يكن هذا الجزء من الإجابة هو الجَزَرة المقدَّمة للمستمِعين الأوروبيين. فقد قلت لهم أيضاً إن تركيا قد وقّعت في الأسبوع الأخير 40 اتفاقية مع سورية، و48 مذكرة تفاهم مع العراق، تمت فيها مناقشة إعادة بناء الخط الحديدي الحجازي، وموضوع مد سكة حديد بغداد، التي أثارت الجدل عند انعطافة القرن العشرين، لتصل إلى البصرة. يعني ذلك، لدى أخذ ضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي في الحسبان، توسيع مدى المصالح التجارية الأوروبية والنفوذ السياسي ليصل إلى الخليج وشبه الجزيرة العربية.

يظل أمر استيعاب وهضم الآفاق الاستراتيجية التي تعْرضها مثل هذه الرؤية صعباً على أوروبا، نظراً للتهميش الذي وجدت القارة القديمة نفسَها قد وقعت فيه، بخاصة بعد انتخاب رئيس أميركي-إفريقي ليحتلّ البيت الأبيض، يحمل اسم باراك حسين أوباما.

ثمة التقاءٌ في المصالح، ظهرَ بين تركيا التي يقودها رجب طيب أردوغان، وبين الولايات المتحدة التي يقودها أوباما. وصف أحمد داود أوغلو، وزير خارجية تركيا، والمهندس الرئيسي لسياستها الشرق أوسطية الجديدة، هذا الوضع بأنه «تداخُل مصالح». أوغلو أكاديمي بحكم المهنة، يحب صياغة المفاهيم، ويتردد شعاره: «مشاكل - صفر مع الجيران» في الآذان الأوروبية، كما هي حال عبارة «صعود العثمانية الجديدة».

يظل الأميركيون أقلّ اهتماماً، سواء كان ما يحدث «عثمانية جديدة» أو لا. مع ذلك، يظل عدم الارتياح، بل وربما عدم الرضا الأوروبي، مفهوماً أيضاً. ذلك أن التلاقي بين مصالح الولايات المتحدة ومصالح تركيا المنبعثة التي تكتسب مكانة القوة الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، يجعل من أوروبا غير ذات صلة في واحدة من أهم المنعطفات على مسار المسرح السياسي العالمي.

تبدو المصطلحات القاموسية الجديدة التي يستخدمها القادة الأتراك مفاجئة للكثيرين في الغرب أيضاً. ففي منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2009، في بغداد، كان الجميع يستمعون إلى أردوغان وهو يقف إلى جوار نظيره العراقي نوري المالكي، تماماً في المكان الذي تعرّض فيه بوش للقذف بالحذاء. وقد أعلن أردوغان عقب احتفال توقيع التوافقات الثمانية والأربعين بين تركيا والعراق، أن الدولتين بمثابة «دولتين بحكومة واحدة».

ينبغي أن لا يؤخذ هذا القول على أنه مبالغة، بخاصة أن حاشية رئيس الوزراء كانت تضم أكثر من ثلْث مجلسه الوزاري. وقد اجتمع مع ما يقارب نصف مجلس الوزراء العراقي، ليكون ذلك حدثاً غير مسبوق في تاريخ شؤون العلاقات بين الحكومات في العالم. على المرء أن لا ينسى هنا أن الحديث عن العراق وليس عن لوكسمبورغ، وأن هذا يحدث العام 2009.

ثمة ظاهرة لا تقل إثارة للاهتمام، هي مستوى العلاقة التي تم التوصل إليها مع سورية. فقبل 48 ساعة فقط من «بعثة بغداد التركية»، التقى العديد من الوزراء الأتراك، يقودهم وزير الخارجية أوغلو، مع نظرائهم السوريين، أولاً في حلب ثم عبر الحدود في غازيانتيب (آينتاب) على الجانب التركي. وعلى الأثر، تم رفع متطلبات الحصول على تأشيرة عن المواطنين الأتراك والسوريين. وبهذا، فإن الحدود التركية-السورية البالغ طولها 911 كيلومتراً، التي كانت قد رُسمت في نهاية الحرب العالمية الأولى في سبيل تقسيم الإمبراطورية العثمانية المنهَكة، أصبحت الآن في واقع الأمر مجرد خطَّ حدودٍ افتراضياً.

تُعَدّ تركيا بلداً ملحقاً بالاتحاد الأوروبي، لكن الأمر الأكثر تسبباً للرعب بالنسبة للاتحاد الأوروبي هو دخول المواطنين الأتراك إلى منطقة «الشينغين» من دون تأشيرة، ما يشكّل مفارقة كبيرة مقارنة مع تقارب تركيا مع جيرانها في الجنوب.

وزير الخارجية التركي يبدو أنه لا يحب مفهوم «العثمانية الجديدة»، لكنه سُمع يتحدث عن «اتحاد ما – بعد - عثماني» بين تركيا، والعراق وسورية. مع أنه يبقى من السابق لأوانه رؤية ذلك يتحقق، يجب أن لا يغيب عن البال أن مثل هذا التجمع يستثني اثنين من مراكز القوة في السياسة الإقليمة عدا تركيا، هما: إيران وإسرائيل. وربما يكون الجميع مدركين لفتور العلاقات بين تركيا وإسرائيل، بينما تذهب العلاقات بين تركيا وبين بقية المنطقة إلى مزيد من الدفء باطّراد.

قد تكون هناك تحولات تكتونية (في طبقات الأرض) في معادلة القوة في الشرق الأوسط. وإذا كان هذا هو ما تعنيه «العثمانية الجديدة»، فليكن ذلك. وفي ما عدا الأقلية من النخبة، لا تنطوي الغالبية العظمى من المواطنين الأتراك على شيء ضد هذه النزعة، وليس لديهم سوى الإحساس بالاعتداد، بل وربما بالثقة في النفس.

* صحفي تركي بارز

العثمانية الجديدة وتركيا العائدة الأوروبيون القلقون والأتراك «المعتدون»
 
01-Nov-2009
 
العدد 5