العدد 5 - من حولنا
 

أخيراً، تم بإجراء ديمقراطي إزاحة الحرس القديم واستبدال حرس جديد به لقيادة حركة فتح، بعد عشرين عاماً عاد مؤتمر فتح لينعقد في آب/أغسطس 2009 في بيت لحم بأعضاء أكثر شباباً وشعبيةً وتعليماً. والأهم من كل ذلك أنهم بغالبيتهم العظمى، قد جاءوا من الداخل، من الضفة الغربية وقطاع غزة. لكن التغيير لم يكن شاملاً، فقد بقي محمود عباس على رأس القيادة ممثلاً لدرجة كبيرة من الاستمرارية. كما بقيت أجندة فتح وسياساتها دون تغيير، على الأقل في الوقت الحاضر. فهل تتمكن فتح الجديدة من مواجهة التحديَيْن الداخليَّين الرئيسيَّين الماثلَين أمامها اليوم: توحيد الضفة والقطاع، والفوز في الانتخابات المقبلة؟

مَن هم رجال فتح ونساؤها الجدُد؟ تظهر دراسة للمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية برام الله، أن ثلاثة أرباع أعضاء المؤتمر جاءوا من الضفة والقطاع، فيما جاء الربع الباقي من الشتات، وبخاصة من لبنان والأردن وسورية. هذه هي المرة الأولى التي ينعقد فيها مؤتمر لفتح دون هيمنة شبه مطلقة من الشتات على عضويته. هذا التطوّر يعزّز من توجه فتح نحو قضايا الداخل، وعلى رأسها بناء الدولة.

كما يعني أن فتح تمثل اليوم هموم الفلسطينيين الواقعين تحت احتلال العام 1967، والتحديات التي يواجهونها من استيطان وانتفاضة وصراع وانقسام داخلي.

وهذا يعني أيضاً درجة أكبر من الشرعية الشعبية القائمة على المساءلة، لأن جزءاً مهماً من أعضاء المؤتمر، كانوا قد انتُخبوا أصلاً من قواعدهم الشعبية في أقاليم الضفة والقطاع.

بلغ متوسط عمر الأعضاء 50 عاماً للرجال، و40 عاماً للنساء، ويعمل نحو 60 في المئة من أعضاء المؤتمر، في مؤسسات مدنية وأمنية للسلطة الفلسطينية، ومنظمة التحرير. وهذا يعني التزاماً شخصياً وليس وطنياً فقط بمستقبل عملية بناء الدولة، والعمل على ضمان استمرار سيطرة فتح على هذه العملية، على الأقل للعقد المقبل.

تشير توجهات أعضاء المؤتمر إلى تطلّعهم للحفاظ على مسار ديمقراطي للسلطة، فغالبيتهم، أكثر من 80 في المـئة، حائزون على شهادات جامعية، وأكثر من 90 في المئة يرفضون نظماً سياسية شرق أوسطية مختلفة، مثل إيران والسعودية وسورية، ويفضّلون أنظمة مثل تلك السائدة في تركيا ولبنان، أي أن فتح الجديدة تبقى قادرة على إعادة النظام السياسي الفلسطيني لمسار ديمقراطي يفتح الباب أمام القوى الأخرى كافة، بما في ذلك حماس.

لكن ذلك لن يكون سهلاً، فقد برز الصراع مع حماس بوصفه أحد أهم العوامل التي شكّلت مواقف الأعضاء. الغالبية العظمى، نحو 93 في المئة، نظروا إلى حماس كـ«حركة انقلابية»، فيما لم تزد نسبة الذين وصفوها بأنها «حركة مقاومة» أو «شريك في النضال» على 5 في المئة. هذا الموقف تجاه حماس أثّر في السلوك الانتخابي للأعضاء، إذ نال خصوم حماس البارزون على أصوات أكثر من تلك التي نالها دعاة المصالحة والتعاون مع حماس. إن الاعتقاد السائد بأن حماس تشكل تهديداً مسلّحاً لفتح يعني أن حماس التي ستقبل بها فتح لن تكون مسلّحة، على الأقل ليس في الضفة الغربية وليس في المنظور القريب.

تشير توجهات أعضاء مؤتمر فتح السادس إلى أنه، رغم التأييد الواسع لحل الدولتين، فإنّ الاستعداد لتقديم تنازلات للوصول لذلك ليس عالياً، فمثلاً لم تتجاوز نسبة مؤيدي مبادرة جنيف للتسوية الدائمة رُبع الأعضاء.

كذلك، فإنّ ثلثي الأعضاء يعتقدون، على العكس من رئيس الحركة محمود عباس، أن المواجهات المسلحة أسهمت في نيل الحقوق الفلسطينية التي فشلت المفاوضات في تحقيقها. ما يعني أن المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية لن تكون سهلة، وأن فشلها قد يقود إلى انتفاضة مسلّحة جديدة.

المؤتمر السادس لفتح أعاد الكثير من الحيوية للحركة، وأعطاها قيادة منتَخبة قوية في لجنتها المركزية ومجلسها الثوري، وخلّصها من التفتت الذي ضاعف من حجم خسارتها في الانتخابات السابقة. كما عزّز المؤتمر من قوة عباس وشرعيته، لكن نجاح رئيس الحركة في الحفاظ على مكانته مرهون بقدرته على تجنب أخطاء، مثل تلك التي ارتكبها عندما قبل بتأجيل التصويت في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة على تقرير غولدستون دون نقاش في اللجنة المركزية لفتح، وفي غياب أي تأييد لخطوة كهذه في اللجنة التنفيذية للمنظمة.

كما يواجه عباس منافسة من أعضاء بارزين في اللجنة ا لمركزية مثل: مروان البرغوثي، ومحمد دحلان. لكن هذه المنافسة ليست فورية، فالبرغوثي لا يشكل تهديداً يُذكر وهو في السجن، ودحلان يبقى ضعيفاً دون عودة فتح قوية لغزة. كما يواجه عباس منافسة من سلام فياض، الذي يقدم نموذجاً في كفاءة العمل العام وقدرة المؤسسات العامة على تقديم الخدمات، والحد من الفساد. وهنا أيضاً ليس ثمة تهديد فعلي على مكانة عباس، نظراً لعدم قدرة فياض على إحداث نقلة واسعة في نظرة الجمهور له، إذ يبقى حبيس الاعتقاد بأنه تكنوقراطي فذّ، لكنه ليس قائداً سياسياً، في وقت يبدو الوطن فيه بحاجة لقيادة سياسية وليس فقط تكنوقراطية. سيبقى عباس إذن قائداً لفتح ومرشحها للانتخابات المقبلة. لكنه بعد الضعف الذي أظهره حيال الموقف من تقرير غولدستون، سيكون أكثر عرضة للمساءلة والمحاسبة من أعضاء مركزية فتح والرأي العام الفلسطيني.

كما تواجه فتح وقيادتها الجديدة تحديَيْن فوريَّين آخرَين: إعادة توحيد الضفة والقطاع، والفوز في الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة. إنّ الخوف من التهديد المسلح الذي تشكّله حماس يعني أن إمكانييات توحيد الضفة والقطاع عبر مصالحة مبنية على إصلاح النظام السياسي الفلسطيني، وبخاصة جانبيه الدستوري والأمني، ليس وارداً اليوم. لكن التوحيد من خلال بوابة الانتخابات، وهو جوهر الاقتراح المصري، يبقى ممكناً رغم الصعوبات الهائلة التي تنتظر تنفيذه.

لكي تتمكن فتح من إجراء «انتخابات توحيدية» عليها القيام بأكثر من مجرد التوقيع على الورقة المصرية. عليها أولاً العمل على إبداء ثقة أوسع بالنفس، بالتوقف عن ممارساتها الراهنة في الضفة الغربية التي سمحت بإجراء اعتقالات دون محاكمة، وممارسة التعذيب في السجون، وتقييد الحريات العامة في العمل السياسي الحزبي، وتقييد حرية التظاهر. لا تستطيع فتح الاعتماد فقط على نجاحاتها الراهنة في تحسين الأوضاع الاقتصادية في الضفة، وإعادة فرض النظام فيها، وكبح جماح الفساد، لإعطاء صورة مشرقة عن أدائها.

وعليها ثانياً إظهار عزم أكبر في مواجهة الجمود السياسي في العملية السلمية. فحدوث تقدم حقيقي في عملية السلام، من مثل تجميد شامل للاستيطان أو التوصل لاتفاق حول قيام دولة فلسطينية مستقلة، كفيل بتعزيز مكانة فتح وقدرتها على الفوز في الانتخابات. لكن فرص تحقيق ذلك تبدو شبه منعدمة.

إن كانت فتح تقبل بهذا التقرير، فإنّ عليها التصرف بناءً على مقتضياته، بما في ذلك الاقتراب أكثر من حماس، بتركيز جهودها الدبلوماسية في رفع الحصار عن قطاع غزة، مما قد يعزّز من إمكانية إجراء الانتخابات في حزيران/يونيو 2010، كما تقترح الورقة المصرية. كذلك، إن ثبت أن حماس جادة فعلاً في تفعيل تقرير غولدستون، رغم مخاطر ذلك عليها، فإنّ على فتح إجراء حوار معها حول كيفية تنسيق الخطوات المقبلة المتعلّقة بالتقرير، بحيث يتم التشاور بين الحركتين حول الخطوات التالية.

أخيراً، لكي تعزّز فتح من فرص إجراء «انتخابات توحيدية»، بل والفوز بها، فإنّ عليها إرسال إشارات واضحة لحماس حول استعدادها للقبول بنتائج الانتخابات في ما لو خسرتها. وهذا يتطلب البرهنة على القبول الفعلي، وليس اللفظي فقط، بإنهاء التسييس الراهن في أجهزة الأمن، وبخاصة الوقائي والمخابرات، وتحويل هذين الجهازين إلى مؤسستين مهنيتين خاضعتين تماماً للسيطرة المدنية السياسية الكاملة. إن ترجمة هذا الالتزام تبدأ بتعيين قيادات مهنية غير حزبية لهذين الجهازين ولبقية الأجهزة الأمنية. إنّ خطوة كهذه سترسل إشارة قوية لحماس وللجمهور الفلسطيني بصدد نوايا فتح، ليس فقط بخصوص توحيد الضفة والقطاع، وإعادة دمج حماس في النظام السياسي الفلسطيني، بل أيضاً في إعادة وضع هذا النظام في مسار فعّال نحو التحوّل الديمقراطي.

* مدير المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في رام الله

فُرَص ومحاذير: «فتح» بين استبدال قيادة واستمرار سياسة
 
01-Nov-2009
 
العدد 5