العدد 5 - شأن اقتصادي
 

بعد أن استطاع العالم أن يصحو جزئياً من صدمة عاصفة المال الهوجاء التي ضربت أركانه منذ أكثر من العام ونصف العام، لا بد من التوقف بمسؤولية وبعيداًً عن البيروقراطية عند عنوان حوكمة الشركات، روحاً وتطبيقاً، لا لوائح وتعليماتٍ جامدة.

وُجدت قواعد الحوكمة أساساً لحماية المستثمرين، وبخاصة الصغار منهم، وترسيخ العدالة للجميع، فهي شواخص تحدد حقوق العاملين وواجباتهم في الشركات وإداراتها والمساهمين فيها وجمهور المستثمرين.

فقد أدى تنامي عدد الشركات وتوسيعها وارتفاع عدد المساهمات العامة، إلى ازدياد المسافة بين المساهم صاحب المال وبين الإدارة، أي من يدير المال. فتوجب على هيئات الرقابة على الشركات أن تتخذ موقعاً في منتصف هذه المسافة، وأن تضع شواخص للحقوق والواجبات بهدف الحماية وتقليل المخاطر وقائياً، وفضّ النزاعات قبل حدوثها. فالشركات والأسواق يجب ألاّ تُترك لتصحح «نفسها بنفسها»، بل لا بد من التدخل لحماية المساهمين والمتعاملين من خلال تفعيل القانون.

لقد قامت هيئة الأوراق المالية العام 1999، بوضع تعليمات الإفصاح بموجب قانون الأوراق المالية، ملزمة لجميع الشركات المدرجة بالإفصاح عن بياناتها المالية كواجب عليها وحق للجمهور. ووضعت «دليل حوكمة الشركات» الذي اشتمل على ضوابط لمجالس الإدارة ولجانها والهيئات العامة وحقوق المساهمين والإفصاح والشفافية للجمهور عامة.

وبشهادة عالمية ميدانية من البنك الدولي، تبين أن السوق عندنا تحقق مستوىً تطبيقاً للحاكمية في الشركات الأردنية فوق المعدل العالمي المتعارف عليه، فعزز الشفافية والإفصاح وحق الجمهور في الحصول على المعلومة، ووفر حماية أكبر للمساهمين والمعاملة العادلة بينهم، سواء كانوا أردنيين أو أجانب. وظهرت ملامح نجاح الإفصاح والحوكمة في استقطاب مستثمرين غير أردنيين في سوق الأوراق المالية، بلغت نسبة ملكيتهم نحو 50 في المئة من القيمة السوقية عندنا.

ولكون الحوكمة ثقافة أعمال ونهج إدارة تؤسَّس وتُمنهَج في الشركات، ابتداءً بالمساهمين المالكين مروراً بالإدارة العامة للدولة وانتهاءً بالموظفين والمزوّدين، فإن النتائج العملية لتعليمات الحوكمة للشركات تظهر واضحة بعد فترة من زراعتها.

لقد دشنت الحوكمة مفاهيم جديدة في الشركات المساهمة العامة، مثل مفهوم «العضو المستقل» في مجالس الإدارة، وهو الذي لا تربطه بالشركة أو بأي من موظفي الإدارة التنفيذية العليا مصلحة مادية، مما يرسخ حيادية القرارات المتخذة في الشركات. وكذلك مصطلح «التصويت التراكمي» الذي يرسخ لنهج حماية أصوات الأقلية المالكة في الشركات حفاظاً على أسهم صغار المستثمرين من الضياع. وكذلك مفهوم «تعاملات الأطراف» ذوي العلاقة، ووجوب إفصاح الشركات عن الصفقات والعقود التي تزيد على خمسين ألف دينار وتُبرَم ما بين الشركات والشركات الحليفة أو مع أعضاء مجلس الإدارة أو الإدارة التنفيذية أو كبار المالكين وغيرهم.

وقد أشار الدليل في بنوده إلى مفهوم «دوران المدققين»، وضرورة أن لا يستمر مدقق الحسابات الخارجي للشركة في عمله كشريك مسؤول أكثر من أربع سنوات متتالية، على أن لا يتم إعادة انتخابه مدققاً خارجياً من الهيئة العامة إلا بعد مضي سنتين. وهو ما يساهم بشكل فاعل ووقائي في الحد من نشوء علاقات شراكة غير حيادية قد تربط بين الإدارة التنفيذية للشركة والمدقق الخارجي، كما أنها تحمي المدقق واستقلاليته من سيطرة التنفيذيين في الشركات.

الشركات حالياً تفرج عن بياناتها المالية الربعية والدورية، وتفصح عن بيانات وتداولات المطلعين في الشركات، ومن يمتلكون 1 في المئة فأكثر من رأس المال، ومستحقات أعضاء الإدارة ورواتبهم ومزاياهم، مما يسهم في تصحيح الصورة وضبطها عن الشركات، ويضع المساهمين في الصورة المالية للشركة ومزايا إدارتها واقتطاعاتها من أرباح المساهمين. ما يُنشَر دورياً من تصريحات وإفصاحات لمدراء ورؤساء للشركات في الصحف ليس كرماً منهم، بل هو التزام بتعليمات الإفصاح وترسيخ للشفافية في السوق.

هيئة الأوراق المالية لم تكن وليست مع من يترهل وينادي بـ«التخفيف» أو التساهل في محاسبة الشركات المصدِّرة للأوراق المالية حول تطبيق الإفصاح والحوكمة، تذرُّعاً بالأزمة المالية العالمية، فالحصيف من اتّعظ بغيره. الإمعان بأسباب هذه الأزمة يبين أن الرقابة غير الفاعلة والإفصاحات المعتمة وتدني الشفافية هي «الملوثات» الأساسية التي أصابت العالم بِداءِ الأزمة، لذا لن تتوانى الهيئة عن تعميق ثقافة الإفصاح وزيادة وتيرة إلزامية تطبيق قواعد الحوكمة والممارسات الفضلى في الشركات المصدِّرة. وتقوم حالياً بآتمتة نظام الإفصاح بالكامل ونشر البيانات المالية للجمهور إلكترونياً على مواقعها.

هيئات تنظيم الأسواق المالية في أي دولة أو سوق ناشئة، تجاهد وتضع تعليمات وشواخص تصب في صالح الشركات، كما تضع الإجراءات الوقائية الإفصاحية التي تُجنّب هذه الشركات والمالكين والمساهمين مخاطر العمل. ودور المساهم لا يقل أهمية عن دور الهيئات الرقابية، فله الحق وعليه الواجب في حضور اجتماعات الهيئات العامة وتقديم الاقتراحات ومناقشة ومتابعة ومساءلة إدارة الشركة والمدقق الخارجي، وبذلك يكون المواطن المساهم الواعي شريكاً لهيئات الرقابة في تحقيق الشفافية وحماية حقوقه ومحاربة الفساد.

هناك من يطالب باستيراد نهج الديمقراطية من الخارج، بخصوص الحوكمة، لكن الديمقراطية الحقة هي عملياً وفعلياً إعلاء سيادة القانون، لتجذير حس العدالة لدى الجمهور والمسؤولين، وتطبيق القانون على الجميع. ففي قوانيننا ما يحذر من الفساد ويعالجه في «عرضه» و«الطلب عليه»، وبلدنا خصب بالقوانين، ولسنا بحاجة إلى تراكم قوانين، بل نحتاج إلى «تفعيل» القائم منها عملياً، فهناك الدستور المتطور السامي على غيره، وقانون العقوبات والقانون المدني وقانون الأوراق المالية وسواها من القوانين، فكلها شواخص واضحةٌ بنودها للعيان.

الحوكمة ثقافة ومنهج حياة ديمقراطية. إن فرض الغرامة المالية على المخالفات الجوهرية للقانون، مثل الفساد والإساءة لأموال المساهمين قد يعدّها المخالفون «كلفة أعمال». وكي يكون الإجراء رادعاً لمن يسيء للمجتمع وللاقتصاد الوطني، لا بد أن تتجاوز الكلفة حد الغرامة، بحيث تكلف المخالف فقدان حريته لفترة من الزمن.

* رئيس هيئة الأوراق المالية

الحوكمة: ثقافة ومنهج حياة ديمقراطية
 
01-Nov-2009
 
العدد 5