العدد 3 - قارئ/كاتب
 

حين فُتح الباب أوائل التسعينيات لإنشاء جامعات يمتلكها مستثمرون، عُدَّ ذلك فتحاً عظيماً لمصلحة الأعداد الكبيرة من خريجي التوجيهي الذين لم تعد الجامعات الرسمية تتسع لهم. واعتمد الترويجُ لهذا «الفتح» الالتباسَ اللغوي بين «الجامعة الخاصة» بمعنى «الأهلية» غير الحكومية، و«الجامعة الخاصة» بمعنى شركة خدمات ربحية، وبدعوى أن أفضل الجامعات في العالم هي الجامعات الخاصة. والحال أن الجامعات المتميزة في العالم ليس من بينها جامعة تدرّ ربحاً لمستثمر. فكل «ربح» تحققه هذه الجامعات من دخلها من الرسوم الدراسية وعوائد الوقفيات المتبرَّع بها، بما يفيض عن التكاليف الجارية لإدارتها، يُعاد استثماره فيها نحو خدمات تربوية أفضل جودة، كما هي في جامعات كامبردج وأكسفورد والسوربون ومدرسة لندن للاقتصاد ومعهد ماساسوستش للتكنولوجيا.. إلخ.

السؤال: لماذا تكاد قائمة الجامعات القائدة والممتازة في العالم تقتصر على الجامعات الخاصة غير الربحية، ولا تشمل أيّاً من الجامعات الخاصة الربحية؟ الجواب هو في الفهم الدقيق لدور عوامل السوق (العرض والطلب وآلية السعر) في تحديد كفاءة إنتاج أيٍّ من السلع والخدمات.

إن فعالية عوامل السوق في تحقيق الجودة في إنتاج سلعةٍ ما مشروطةٌ بأن تكون هذه السلعة «سلعةً خاصة»، بمعنى أن إنتاجها مطلوب من مستهلكين خواصّ جاهزين بالقدرة الشرائية لدفع ثمنها؛ مقارنة بـ«السلعة العامة» التي يكون الطلب عليها طلباً مجتمعياً غير فردي يلبي حاجة المجتمع ككل بأحجام ونوعيات لا يمكن حفز إنتاجها من خلال القدرة الشرائية لأيّ فرد أو مجموعة، ولا يمكن الركون إلى عوامل السوق لتلبية الطلب المجتمعي عليها بالكمّيات والنوعيات المرغوبة، كما هي الحال في ما يخص «خدمات» مثل: الأمن العام، الدفاع، التنظيم الحضري، نظافة المدن، إسالة الماء، الصرف الصحي، وغيرها من البنيات الأساسية والمرافق العامة، ومنها التعليم والتدريب والتعليم العالي.

«السلعة» التي تمثلها الخدمات الجامعية هي «سلعةٌ عامة» مطلوبة للمجتمع بأحجام ونوعيات لا يمكن لعوامل السوق أن تحفز الاستثمار الفردي على إنتاجها. صحيح، هنالك جانب من تلك السلعة العامة يمكن أن يحرّك الطلب السوقي ويتقاضى منه ثمن إنتاجها، وهو «الشهادة» الجامعية التي توثّق تحصيل الطالب لمعارفَ ومهاراتٍ معينة. لهذه الشهادة قيمة سوقية، كونها مطلوبة من الأفراد الطالبين فرصاً للعمل. بهذا المعنى يُمكن لمستثمر ما أن يؤسس «جامعة» تقدم هذا المستوى من «السلعة الخاصة» في صورة «شهادة» بأن حاملها يمتلك كذا وكذا من المعارف والمهارات كونه اجتاز الامتحانات التي تجريها الجامعة نفسها. لكن ليس في تلك «الشهادة» ما يضمن النضج الشخصي لحاملها وسعة قدراته الفكرية وأفقه الثقافي وحوافز الاطلاع والمرونة والمنهجية في حل المشاكل، والمناقب الأخلاقية للمواطنة الصالحة، وجميعها ما لا تُنتجه حصص التدريس، وإنما ينتجه «الحرم الجامعي» وأساتذة يُعَدّ كلٌّ منهم قدوة بمناقبه المسلكية الشخصية، وإيمانه بالفكر الحر والحوار، وإنتاجيته في البحث العلمي أو الإبداع الأدبي.

ليس ثمة طريقة لتحويل المنافع أو العوائد التي يُنتجها «الحرم الجامعي» و«القدوة العلمية» إلى سلعة خاصة ذات ثمن محدد يدفعه الراغب ويوفره الزاهد. وبديهي أن قدرة الحرم الجامعي على توفير خدماته «العامة» تتناسب طردياً مع حجم الموارد المالية التي تُستثمر فيها. ولا يمكن تصور حالة يمكن فيها لجامعة ما أن تطلب من طلبتها رسوماً تغطي تكاليف مثل تلك الخدمات فوق الحد الأدنى لاجتياز امتحانات المساقات الجامعية المطلوبة لمنح «الشهادة الجامعية».

أما في حالة الجامعة «الأهلية» غير الربجية، فإن كل ما يفيض عن تكاليف مساقات التدريس المرتبطة مباشرة بالشهادة، يُستثمر في بناء قدرات «الحرم الجامعي» على إنتاج الأداء الجيّد لخدماته العامة.

من الصعب تصوُّر جامعة تكفي الرسومُ التي تتقاضاها لتغطية تكلفة خدماتها المباشرة كسلعة خاصة، وخدماتها غير المباشرة كسلعة عامة، ثم تحقق مع ذلك ربحاً مُجْزياً للمستثمرين. لذلك فإن الاستمرار في إنشاء جامعات ربحية تَعِدُ المساهمين بعوائد مجزية، يعني أن يصبح حافز الربح محفوراً في صميم الثقافة الإدارية والمالية للجامعة، وتخصيص جميع ما يمكن توفيره من الحد الأدنى لتكلفة «السلعة الخاصة» الجامعية ليضاف إلى أرباح المساهمين بدلاً من إعادة استثماره في إنتاج «الخدمات العامة» للجامعة.

وفي ظل الشحّ اللاحق بـ«الوقف الخيري» للخدمات الاجتماعية، وإلى أن يتسع أفق الوقف الديني ليشملها، يصعب الاستغناء عن مدخرات القطاع الخاص لتمويل التعليم العالي. لكن ما يتعين الاستغناء عنه هو المدخرات التي تُستقطب من خلال حافز المخاطرة، والاعتماد بصورة حصرية على المدخرات التي تتوسط البنوك لإقراضها أو يقرضها المدخرون مباشرة، من خلال سندات تكفلها الحكومة أو تكفلها المؤسسات الراغبة بالعمل الخيري. هذه المقاربة تفتح الباب على مصراعيه لتحويل الجامعات الربحية إلى جامعات وطنية غير ربحية، وتحويل حقوق المساهمين فيها إلى ديون على هذه الجامعات في صورة سندات ذات عائد ثابت وبفائدة عادلة.

* عضو سابق في مجلس التعليم العالي

مشروع قانون الجامعات وحدود التخاصية
 
01-Sep-2009
 
العدد 3