العدد 5 - الملف
 

ينيات القرن الماضي، عندما كنتُ تلميذاً في الجامعة الأميركية ببيروت، وأعمل في الجامعة نفسها في مشروع الوثائق والوقائع العربية الذي كان يُشرف عليه كل من وليد الخالدي والراحل يوسف إبش.

هناك تعرّفتُ جزئياً على عالم الطباعة والنشر والتوزيع، وكنتُ في حينها أرأسُ هيئة تحرير مجلة البتراء الصادرة عن رابطة الطلاب الأردنيين، وأفدتُّ من هذه التجربة المبكرة عندما بدأتُ مشروع مؤتمر بلاد الشام العام 1972، وأصبحتُ أُتابع طباعة بحوث المشاركين وأستنسخها استعداداً لتوزيعها على المشاركين.

لكن هذه التجربة المتراكمة لم تؤهلني لاقتحام عالم الطباعة والنشر إلاّ عندما عُيِّنتُ عميداً للبحث العلمي في الجامعة الأردنية (1984 – 1989)، وتوليتُ إصدار مجلة الجامعة العلمية المُحكّمة «دراسات»، بمعدل اثني عشر عدداً سنوياً.

لم تكن المطبعة المتواضعة بالجامعة قادرة على النهوض بهذه المهمة شبه المستحيلة، وكان المسؤول الإداري بالجامعة آنذاك يحرص على أن تبقى المطبعة محتفظة بتواضعها لأنه أرادها لطباعة قرطاسية الجامعة فقط، فكانت المشكلة الأولى الاصطدام مع هذا التوجّه. وللعلم، فإن نفوذ الإداريين في الجامعات غالباً ما يتجاوز قدرات الأكاديميين على إحداث نقلات التغيير.

كانت القدرات البشرية، على مستوى الخبرة والمهارات الطباعية، محدودة جداً، والمكان ضيق ولا يتوافر على الشروط الصحية، وهناك نقص ملحوظ في الأجهزة والآلات، فلم تكن هناك مثلاً أجهزة تحميض وتجفيف، ولا أجهزة فرز، وكانت مشكلة فرز الألوان تُشكِّل ثالثة الأثافي، فكُنّا نرسل المادة الملونة إلى محل بوغوص فارنتيان ومظهر مشّوقة، على طريق المحطة، واضطررنا أن نعمل مع أكثر من جهة للصّف أولاً مع معاذ شقير وزيد عكشة في شارع خرفان (جبل عمّان)، وكُنّا نجلس على الدرج ننتظرهم لتسليمهم مادة أو استلام مصفوفة منهم. ولم نجد من يصفُّ لنا المادة باللغة الإنجليزية، واستطعنا أن نجتذب أحد العمال الهنود من محل شقير وعكشة، اسمه موهان، وكان يعمل أزيد من عشر ساعات في اليوم الواحد وفي مناسبات خاصة يعمل خمس عشرة ساعة، ونظراً لأن لغة الأوراق الإنجليزية كانت بحاجة لتحرير، كان موهان يتولى ذلك.

من كل ذلك نخلص إلى أننا في الأردن لم نُنمِّ جهازاً بشرياً مُدرّباً على غرار ما هو قائم في الدول المتقدمة، أو ما يوازي تركيا أو إيران أو لبنان. ووجدتُّ من الضروري أن أُثقِّف نفسي في عالم الطباعة، فبدأتُ أختلط بشكل مكثف مع العاملين في المطبعة، وتعلّمتُ أسماء الآلات، وتعرّفُت على «موديلات» المطابع، بعد أن راجعتُ تاريخ الطباعة في الغرب وفي الأديرة في لبنان، وبطبيعة الحال، كلّنا يذكر دور المطبعة التي جلبها نابوليون بونابرت من مالطة معه إلى مصر، وبعد ذلك مطبعة بولاق، صاحبة الفضل الكبير في إحياء التراث العربي الإسلامي بمصر، التي نقلها الآن إسماعيل سراج الدين إلى مكتبة الإسكندرية، ما شكّل تحفة تاريخية يُشكر سراج الدين على احتفاظه بها.

تلا ذلك دخول المطبعة الأميركانية إلى بيروت، وفيها طُبعت ترجمات الكتب المقدسة بعد تعريبها. وامتدّ بي الأمر لأعود إلى جذور الطباعة العربية والعثمانية والفارسية في استانبول، التي بدأها الجندي الهارب إلى الدولة العثمانية إبراهيم متفرقة (توفي العام 1745)، الذي وضع كتاباً في أصول الإصلاح بعنوان: أصول الحكم في نظام الأمم. ولا أقصد من وراء هذه الكلمات إغراق القارئ بالتفاصيل التاريخية، بل لأؤكد الحاجة الماسة لكل من يتعاطى الطباعة، أن يُلمّ بتاريخها وتاريخ الصنائع المرافقة لها، مثل صناعة الورق وعالم التصوير وعالم تدفق المعلومات من خلال الشبكات العنكبوتية والمواقع الإلكترونية والوسائل السريعة، بحيث لم يعد بإمكان أيٍّ منّا أن يعزل نفسه عن العالم.

وكان رئيس الجامعة عبد السلام المجالي صاحب قرار، فأمر بتوسيع المكان بمقدار 106م2، وضمّ إليه مبنىً صغيراً آخر كان مكان سكن رئيس الجامعة سابقاً، وأرسل بعثة إلى ألمانيا لشراء مطبعة جديدة بعد أن أقرّ تصاميم المبنى الحالي لمطبعة الجامعة الأردنية، التي تطبع مطبوعات الجامعة ومنشوراتها وشهاداتها وقرطاسيتها.

وعندما عُيِّنتُ رئيساً لجامعة مؤتة العام 1991 كان أول إجراء فكّرتُ به إنشاء مطبعة للجامعة، وعرضتُّ الأمر على كبار المسؤولين فوافقوا على طلبي، على أن يتمّ تمويله من وزارة التخطيط، لكن وزير التخطيط آنذاك رفض بعنادٍ وإصرار التوجيه العالي، بحجّة أن فكرة المطبعة غير ذات جدوى اقتصادية. وبالرغم من كل الإلحاح والضغوط فإنه كان من المدرسة الرقمية المبكرة في الأردن. ولم يكن في مناطق الجنوب - من وادي الموجب ربما إلى المدورة - مطبعة واحدة يُعتدُّ بها، وكأن الوزير الكريم لم يسمع بإبراهيم متفرِّقة ولا بنابليون، لكنني لحُسن الحظ نجحتُ في إنشاء مطبعة صغيرة في جامعة آل البيت سمينّاها «المطبعة الهاشمية»، كانت تقوم بطباعة القرطاسية وبعض كتب متطلبات الجامعة.

وواجهتني المشاكل نفسها عندما سُمِّيتُ رئيساً لهيئة تحرير المجلة الأردنية للتاريخ والآثار، التي تصدر بالتعاون ما بين وزارة التعليم العالي والبحث العلمي من جهة والجامعات الأردنية مجتمعةً من جهة أخرى. ورغم الدعم السخي الذي تقدمه وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، ويبلغ عشرين ألف دينار أردني سنوياً، فإنه لا يتوفر لدينا القوى البشرية المتفرغة لإصدار المجلة، ونضطر لإرسال البحوث المُجازة إلى خارج الجامعة لتحريرها، وإرسال البحوث باللغة الإنجليزية إلى خارج الأردن للغاية نفسها، وبالتالي يمكن القول إنه لا يتوافر لدينا شريحة من الممتهنين لتحرير النصوص بدقة وبأمانة، ناهيك عن ندرة من يتقن التنقيط والترقيم.

عرفت الأردن المطابع منذ العشرينيات، مثل مطبعة صحيفة الأردن، وبعض المطابع، حيث كان الاعتماد على أرف الرصاص المعهودة، ونجحت بعض المطابع، مثل المطبعة الوطنية والمطابع التعاونية، وتعثّرت مطابع القطاع العام، مع أنها توافرت على أحدث الأجهزة والتجهيزات. وتتمثل المشكلة في الأردن في غياب القطاع البشري الكفوء من المصممين والخطاطين وفارزي الألوان، زِد على ذلك الإداريين والناشرين والموزعين. وكلنا يدرك أن الأردن بلد صغير وسوقه محدودة، ولم تتمكن المعارض من وضعه على خريطة التسويق، نظراً للتكلفة العالية للطباعة فيه، وما يتم من بيع في الأردن يتأتّى عن طريق إحراج مؤسسات القطاع العام والبنوك والشركات لشراء بعض ما يُصدر، وبالتالي إذا رفض هذا القطاع الشراء فإن مستقبل الكتاب في الأردن غير واعد.

وصلني للتو كتاب صادر في شباط/فبراير 2009 ببيروت، بعنوان: بيروت عاصمة الطباعة العربية ورائدة النهضة الحديثة. فمتى تكون عمّـان عاصمة الثقافة والطباعة؟

تجربتي مع الطباعة والنشر الجامعي أوعر المسالك لإصدار كتاب أو مجلة
 
01-Nov-2009
 
العدد 5