العدد 5 - الملف | ||||||||||||||
سوق رائجة لها مريدوها و«صيادوها» الذين يحاولون قنص «كنوز» تعرض، أحيانا، لدقائق، لتختفي بعدها في بطن إحدى المكتبات الشخصية.. وربما إلى الأبد. مكتبات عديدة، وبسطات معلومة الأماكن، تخصصت في الحقل الذي وفّر متطلبات الحياة لعائلات عديدة امتهن أربابها تجارة الكتب القديمة و«المستعملة». هشام جمع مكتبته الشخصية بأناةٍ، وعلى مدار أعوام طويلة، واستطاع تضمينها العديد من الكتب والمجلدات القيمة بأسعار لا تخطر على بال: ستة دنانير ثمن نسخة أصلية قديمة من أحد أجزاء ألف ليلة وليلة، ودينار واحد مقابل مجلد فاخر مطبوع في الصين العام 1985 يضم لوحات وتخطيطات أولية لفنانين صينيين، مرفقة بشروحات باللغتين الصينية والإنجليزية، وديناران ونصف الدينار لقاء عشرة أعداد من مجلة العربي الكويتية يعود تاريخها إلى ستينيات القرن الماضي، وبمعدل ربع دينار للعدد. تلك بعض لقىً نادرة تضمنتها مكتبة هشام الشخصية التي جمعها بشكل أساسي خلال أعوام «إدمانه» على ارتياد أماكن بيع الكتب المستعملة في عمان. هشام يعرف تلك الأماكن جميعها: كشك خزانة الجاحظ أمام مطعم هاشم، مكتبة الأصدقاء على بعد أمتار منه في طلوع سرفيس جبل عمان، كشك أبو مروان في شارع سقف السيل، مكتبة الأصدقاء في مجمع رغدان الجديد، سوق الخميس في مخيم البقعة، وبسطات يومي الجمعة والسبت في شارع سقف السيل، والأخيرة هي أماكنه المفضلة، ومنها استطاع قنص الكثير من الكنوز التي يمتلكها، فأصحابها يضعون الكتب إلى جوار الأدوات المنزلية وزجاجات العطر الفارغة وألعاب الأطفال. تلك الأماكن تقدم لعشاق الكتب والطلاب والباحثين فرصاً ذهبية لتداول الكتب بأسعار تكاد رمزية، في ظل أوضاع اقتصادية صعبة، وارتفاع كبير في أسعار الورق عالمياً. محمد المعايطة، 30 عاماً، واحد من ثلاثة إخوة يقومون على إدارة خزانة الجاحظ، وهي واحدة من أقدم المكتبات في عمان، يقول إن هناك معرضاً أسبوعياً للكتب المستعملة تقيمه المكتبة، يبدأ فيه سعر الكتب من ربع دينار وينتهي بدينار. الأسعار الزهيدة ليست الخدمة الوحيدة التي تقدمها تلك المكتبات، فهناك أيضاً خدمة الإعارة والتبديل، ففي خزانة الجاحظ تعار الكتب لمدة شهر، ويتم تقاضي دينار عن الكتب التي يراوح ثمنها بين 5 و10 دنانير، ودينارين عن الكتب التي تزيد على ذلك. العملية، وفق المعايطة، مفيدة للطرفين، فـ«القارئ لا يضطر إلى دفع نقود ثمناً لكتاب قد لا يرغب باقتنائه بعد أن ينتهي من قراءته، وصاحب المكتبة يكسب كون الكتاب يعار أكثر من مرة، ويحقق ربحاً يفوق ربح بيعه». مكتبات أخرى تتبع نظام التبديل، وإعادة شراء الكتاب، فيمكنك شراء كتاب من مكتبة الأصدقاء وسط البلد وإعادة بيعه إلى المكتبة نفسها بخصم بسيط جداً من الثمن، ويمكنك أيضاً استبدال الكتاب بآخر بالثمن نفسه. ما هي مصادر الكتب المستعملة؟ ياسر القرم 34 عاماً الذي يعمل منذ 14 عاماً مع والده في مكتبة الأصدقاء وسط البلد يقول إن المصدر الأساسي لهذه الكتب هم الناس. ويؤكد «الناس يعرضون ما لديهم، وأحياناً تعرض للبيع مكتبات شخصية كاملة، يبيعها أصحابها إما لداعي السفر، أو لضائقة مالية». بحسب المعايطة فإن القصص التي تتكرر هي ربات منازل يبعن الكتب لأنها «تجلب العث والصراصير»، أو الرجل الذي يموت فيسارع الورثة إلى بيع مكتبته. ويروي أنه اشترى، أكثر من مرة، مكتبات لشخصيات مشهورة، ولكنه رفض تسمية أي منها تفادياً لإحراج عائلاتهم. وهو يؤيد أن يبيع هؤلاء ما لديهم من كتب ذلك أن «من لا يعرف قيمة الكتاب فإنه لا يستحق أن يبقى عنده، وبيعه يضمن انتقاله إلى من سوف يستفيد منه فعلاً». الستيني، بائع الكتب المستعملة، (ع)، الذي فضل عدم التصريح باسمه، اعترف بأن معظم مخزونه من الكتب والمجلات يأتي من «السرّيحة» وهو الاسم الذي يطلقه الشارع على نابشي الحاويات، ولكنه لا يشتري كل ما يأتونه به، فبعضه يكون في حالة سيئة، وبعضه الآخر لا يكون له سوق، مثل الكتب بلغات أوروبا الشرقية، معترفاً بأن «ما يمشي سوقه هو الكتب العربية والإنجليزية.. والفرنسية بدرجة أقل». عملية شراء الكتب هي واحدة من التحديات الصعبة تواجه من يمتهنون بيع الكتب المستعملة، فالأمر، بحسب مزاولين، يتطلب خبرة بحركة السوق ونوعية الموضوعات المطلوبة، إضافة إلى عوامل أخرى تتدخل في تسعير الكتاب؛ نوعية الورق وسنة الطبع وجهة النشر، غير أنه، ومع توافر الخبرة، فإن احتمالات كساد «بضاعة» ما يظل قائماً باستمرار، بحسب (ع). في الوقت الحاضر، فإن الكتب الأكثر رواجاً هي الدينية، وبالتحديد كتب الدعاة الذين تروّج لهم الفضائيات، الكتب السياسية المرتبطة بأحداث ساخنة، الروايات، والكتب الأكاديمية التي يقول المعايطة إنها تباع بأقل من نصف أثمانها الأصلية، ولكن مشكلتها، كما يقول صاحب مكتبة الأصدقاء في مجمع رغدان الجديد طايل الدلو، هي أن مدة صلاحيتها قصيرة، لا تتجاوز السنتين أحياناً، كون أساتذة الجامعات يطلبون دائماً الطبعات الجديدة. الثقافة وسعة الاطلاع شرط أساسي لبائع الكتب، وطايل الدلو (60 عاماً)، يصر على أنه «مش مجرد بيّاع كتب». الدلو يحمل إجازة جامعية في الأدب الإنجليزي من الهند العام 1973، وكان عمل في التدريس في الكويت طوال عمره هناك، ليعيده الاحتلال العراقي للكويت مطلع تسعينيات القرن الماضي إلى الأردن حيث افتتح مكتبته. يتقن الإنجليزية والهندية، ويقول إن اتساع ثقافة بائع الكتب تساعده على ترويج ما لديه، فكثيراً من الناس يأتون وفي أذهانهم موضوعات محددة يريدون البحث فيها أو المعرفة عنها، ولكنهم يكونون عاجزين عن اتخاذ قرار بشراء معين. ويؤكد «ثقافة البائع تمكنه من توجيههم إلى اختيار ما يلبي غرضهم، وعندما يأخذون الكتاب ويجدون أنهم استفادوا فعلاً، فإن هذا يجعل البائع محل ثقتهم لهذا يعودون مرة أخرى». طايل يشدد على المرونة في التعامل، فيمكن لشخص اشترى كتاباً أن يعود ليقول إنه ليس ما كان يبحث عنه، ليعيده ويأخذ غيره أو حتى يسترجع نقوده. ويؤكد بأريحية تميّز بائعي الكتب المستعملة «ما في مشكلة»، ذلك أن علاقات ودّ تنشأ بين البائع وزبائنه المداومين تجعلهم يتبادلون أرقام الهواتف، والأخبار الشخصية وحتى الخدمات. (ع) مثلا يداوم 12 ساعة في اليوم، ويقول إنه يرى زبائنه أكثر مما يرى أولاده، وعندما التقته ے كان جالساً في الظل إلى جانب كشكه يكتب «موضوع إنشاء» لروان، وهي طالبة في الصف العاشر تتردد عليه لشراء المجلات النسائية التي يبيع الأعداد القديمة منها بربع دينار للعدد، أو لتبديل ما كانت أخذته من روايات عبير المترجمة. هذه المكتبات تعمل لساعات طويلة لا تقل عن اثنتي عشرة ساعة، في حين تفتح خزانة الجاحظ على مدار الساعة، حيث يتناوب المعايطة مع أخويه على العمل، ويقول إن «معظم زبائن الليل من المثقفين» الذين يكونون قد خرجوا من سهرة في مطعم هاشم، أو توجهوا لشراء فيلم سينمائي من محلات الدي في دي المناوبة هي الأخرى، وهم يرتادون المكتبة كـ«أحد طقوسهم الثقافية». (ع) كذلك يفتح كشكه 24 ساعة، لكن الأمر لا علاقة له بطقوس المثقفين، بل بسعة المحل، فلا مكان داخل الكشك لأكوام الكتب والمجلات الفائضة خارجه، ولم تسمح له الأمانة بتوسعته، لهذا اضطر إلى استئجار عامل يسلمه الكشك في الثامنة ليلاً ويستلمه منه في الثامنة صباحاً، ولا تكون مهمته البيع بقدر ما هي الحراسة، وهو يدفع للعامل 200 دينار، ما يدل على أن تجارته هي تجارة رابحة فعلاً، يشاركه في ذلك طايل الذي يحمل اثنان من أبنائه درجة البكالوريس في التمريض من الجامعة الهاشمية، ولكن أياً من الشابين لم يعمل في مهنته بل واصلاً العمل مع والدهما في بيع الكتب المستعملة، كون ما يكسبانه منها يفوق، كما يقول والدهما، أي راتب سيتقاضيانه من مهنتهما. |
|
|||||||||||||