العدد 5 - الملف
 

«العلاقة ما تزال إشكالية بين الإبداع والرقابة». هكذا يرى مبدعون وناشرون ومثقفون، فرغم إلغاء دائرة المطبوعات العامة أشكال الرقابة المسبقة على المطبوعات، إلا أن حرية الفكر والإبداع لم تتحقق بوجود شكل آخر: الرقابة البَعْدية.

القضية شكّلت مثار جدل طويل خلال الأعوام الماضية، ما حدا بمثقفين وناشطين إلى تبني حملة مطالبة بإلغاء دائرة المطبوعات بكاملها، متهمين إياها بأنها «تعطل الفكر والإبداع في الأردن».

الجدل الحاد الذي ساد الساحة، جعل الدولة الأردنية تتحرك لمصلحة حل آخر، فقد جاء قرار وزير الإعلام نبيل الشريف بتشكيل لجنة استشارية تضم مثقفين ومبدعين وأكاديميين، يكون لها دور استشاري من قبل الوزارة، وتحديداً من قبل دائرة المطبوعات والنشر، تستمع خلاله الجهة الرسمية لآراء تلك اللجنة في ما يعرض عليها من كتب أو إصدارات.

تضم اللجنة التي يرأسها الشريف نفسه، كلاً من: صلاح جرار، عصام الموسى، هند أبو الشعر، غسان عبد الخالق، عبد الله رضوان، سلطان المعاني، وجورج طريف، فيما استقال إبراهيم العجلوني مبكراً من اللجنة.

لكن مقرر لجنة الحريات في رابطة الكتاب الأردنيين عبد الله حمودة متبني الحملة الوطنية لوقف منع الكتب وتحويل دائرة المطبوعات إلى دائرة معلومات صديقة للكتاب، يصف تشكيل تلك اللجنة بأنه «إجراء التفافيّ».

حمودة يقول إن المقصود منه مصادرة المطلب المركزي المتعلق، كما يرى، بالوقف النهائي لمنع الكتب، وترك المسألة للجمهور في ما إذا وجد أحدهم نفسه متضرراً من كتاب أو منتج إبداعي ما، فمن حقه اللجوء للقضاء، والقيام بملاحقة قانونية لمن تسبب له بهذا الضرر أو الإيذاء.

سَلة القوانين التي «ترهب الكُتَّاب»، كثيرة بحسب حمودة: قانون العقوبات، قانون حفظ وثائق الدولة، قانون منع الإرهاب، «حتى قانون المعاهدة الأردنية الإسرائيلية بإمكان الدولة أن تجعله سبباً لحبس كاتب إن تعرض لذلك القانون الذي يحمل الرقم (14/ 1994)».

الجنس والدين والسياسة، هي أهم التابوهات التي تحدد عمل الرقابة، ومحلياً، هناك قضايا شغلت الرأي العام وطبقة الكتاب والمثقفين، تقف على رأسها قضية الشاعر موسى حوامدة الذي كُفّر ولوحق قضائياً، وامتدت معاناته على مدار ثلاثة أعوام، كانت خلالها قضيته منظورة في المحاكم التي برأته أخيراً، بعدما وجّهت إلى حوامدة تُهم تتعلق بالتجاوز على الدين في ديوانه الشعري شجري أعلى.

القضية الساخنة الأخرى، ما زالت منظورة من قبل القضاء الأردني حتى اليوم، وهي ديوان برشاقة ظل للشاعر إسلام سمحان الذي حُكم عليه بالسجن مدة عام مع تغريم الناشر «دار فضاءات للنشر والتوزيع» ما قيمته عشرة آلاف دينار أردني.

دائرة المطبوعات والنشر لاحقت كذلك خمسة إصدارات مختلفة المواضيع ومتباينة الاتجاهات: فانيليا سمراء للصحفية المغربية منى وفيق الصادر عن دار أزمنة للنشر والتوزيع، انثيال الذاكرة للكاتب والناشر فتحي البس الصادر عن دار الشروق للنشر والتوزيع التي يملكها البس، حصة آدم للشاعر السعودي زياد سالم، ينطق عن الهوى للشاعر الأردني طاهر رياض الصادر أيضاً عن دار أزمنة، ما اضطر الشاعر معه إلى إعادة النسخ إلى بيروت بعد الرفض الرقابي البَعدي للكتاب، وأخيراً إليك سيدتي بغداد للكاتبة وداد الجوراني.

صاحب دار أزمنة الناشر إلياس فركوح ينفي ما ورد في كتاب مدير المطبوعات والنشر نبيل المومني إلى مدعي عام عمّان، من أن كتاب فانيلا سمراء يشتمل على «إساءة للمفاهيم الدينية»، فمحتوى الكتاب المعني يخلو من أي إساءة للمفاهيم الدينية أو غيرها، بحسب فركوح.

الطريف في قضية الرقابة «البَعدية» تلك، أن رفض الديوان الأخير ينطق عن الهوى للشاعر طاهر رياض، جاء أساساً، كما يوضح الشاعر في حديث لـ ے، بسبب عنوانه. ورغم محاولات رياض التوضيح لهم أن الذين لا ينطقون عن الهوى هم الرسل والأنبياء، وأن «العباد ينطقون عن الهوى»، إلا أن قرار الرفض كان قاطعاً، بخاصة مع وجود ملاحظات أخرى للدائرة وفقهائها تتعلق بمقاطع مبثوثة داخل قصائد الديوان، وهي مقاطع تقيم حواراً جمالياً جرى عليه مشروع رياض الإبداعي مع الفكر الصوفي وإشراقاته وتجلياته.

«في قانون العقوبات وحده 24 مادة يمكن أن تحبس كاتباً»، يكشف حمودة، الذي لا يغفل التأكيد «اللجنة الجديدة بلا صلاحيات، وقيمتها استشارية فقط».

عضو اللجنة القاص والروائي والأكاديمي عصام الموسى، يستشهد بتجارب دول متقدمة، تعتمد في موقفها من كتب بعينها أو منشورات واردة لبلدها على لجان استشارية «موثوق بأهليتها ونزاهتها وحرصها الوطني العام».

يذكر، مثلا، أن إذاعة بي بي سي تستند في مختلف برامجها إلى رأي لجنة استشارية تشكلها الحكومة، وتحمل توصياتها صفة القرار الملزم.

الموسى يصف أعضاء اللجنة بأنهم «من المتخصصين والمهتمين بالشأن الوطني والحريصين، عليه وبينهم مبدعون أيضاً». ويستعرض بعض ما عرض على اللجنة خلال الاجتماعين اللذين عقدتهما حتى الآن، مثل «التعرض للذات الإلهية بطريقة لا يقبلها أحد» في أحد الكتب، وكذلك «انغماس بعض الإصدارات المرشحة لدخول السوق المحلية بالجنس الهابط إلى درجة ماسخة».

الموسى يصف عمل اللجنة بـ«السلاسة»، ويرى أنها يمكن أن تحمل مستقبلاً بعداً توفيقياً، وتقلل من فرص مثول كتاب ومبدعين أمام المحاكم، خالصاً إلى أنه مع فكرة اللجنة، وبأنه ليس مع عودة الرقابة القبلية «لما يمكن أن يسود ذلك من شخصنة وإجحاف بحق المبدعين والكتاب»، داعياً دور النشر إلى استمزاج آراء مستشارين أو محكمين في الكتب التي تنوي نشرها قبل «أن تقع الفأس في الرأس».

من جهته، يحترم وزير الدولة لشؤون الإعلام والاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة نبيل الشريف رأي عبد الله حمودة، ويرى أنه من حقه أن يقول ما يشاء وأن يصف اللجنة بما يشاء، «لكنه رأي شخصي، ولا يمثل رأي رابطة الكتاب الأردنيين، خصوصاً أنه قابل رئيس الرابطة ولم يسمع منه كلاماً من هذا القبيل».

الشريف، وفي حديث لـ ے يؤكد وجود تنسيق مستمر بين وزارته وبين رابطة الكتاب، بخاصة أنه يرى نفسه في صف الكتاب والمثقفين ومن وسطهم، وأنه يعلن في كل موقع يكون فيه أنه «مع توسيع هامش الحرية».

الهدف الأساسي من تشكيل اللجنة، بحسب الشريف، هو إشراك الكتاب والمثقفين والمبدعين الأردنيين أنفسهم بالقرارات التي يمكن أن تتخذ بحق المطبوعات الواردة من الخارج، ودراسة إمكانية السماح لها بدخول السوق المحلية من عدمه. ويقول إن «بعضها لا يقبل أحد دخوله».

الشريف، يرى بهذه الخطوة تعميماً لعمل المجتمع في الرقابة، وعدم حصرها في الكادر الوظيفي الإداري المتوافر في دائرة المطبوعات والنشر. ويقول إن «اللجنة تمثل رأي المجتمع، وتحمل بُعداً مجتمعياً وطنياً.

«التجربة العملية أثبتت حتى الآن نجاح الفكرة»، بحسب الشريف، الذي يرى أن التداول حول كتاب أو مطبوعة عادة ما يتم بشكل جماعي.

يستنتج الشريف أنه رغم الدور غير الرسمي للجنة، ورغم أن الإطار الإداري والقانوني يجعل قراراتها غير إلزامية، إلا أنها على أرض الواقع «أصبحت صاحبة القول الفصل في المسائل المتعلقة بالمطبوعات العالقة».

الشريف يقول في سياق متواصل: «وضعنا المعايير الجديدة لإيماننا بالشراكة»، مبيناً أنه ليس للجنة صلاحيات النظر في القضايا المحالة إلى المحاكم، مثل قضية الشاعر إسلام سمحان.

الرقابة القَبْلية أو البَعْدية: منظور واحد لـ«تابوهات» المنع
 
01-Nov-2009
 
العدد 5