العدد 5 - محلي
 

ما زال التمويل الأجنبي من أكثر الموضوعات إثارة للسّجال والجدل في البلاد، وتحول إلى ما يُشبه «التهمة الجاهزة»، يتم إشهارها في إطار نزاعات شخصية وكَيدية، بصرف النظر عن مدى نفع هذا التمويل أو ضرره، بخاصة ذلك الموجّه منه لمؤسسات مجتمع مدني ومؤسسات إعلامية.

الموضوع طرق أبواب نقابة الصحفيين الأردنيين مجدداً، وبقوة في الفترة الأخيرة. ففي اجتماع مجلس النقابة، 5 تشرين الأول/أكتوبر 2009، تقدم عضو المجلس حسين العموش بشكوى ضد الصحفية رنا الصباغ، بـ»تهمة» تلقّيها تمويلاً أجنبياً من البرلمان الدنماركي.

الصباغ، المعروفة بمقالاتها السياسية التحليلية في صحيفة العرب اليوم ، تشغل منصب المدير التنفيذي لشركة أريج للدورات الإعلامية، غير الربحية. تتلقى الشركة تمويلاً من مؤسسات عديدة، بهدف تطبيق برامج ومشاريع ذات علاقة مباشرة برفع سويّة مهنة الصحافة في البلاد.

شكوى العموش، بُثَّت في عدد من المواقع الإلكترونية، على أنها قرار صادر عن المجلس. عضو المجلس ماجد توبة نفى صحة ما جرى تداوله، وقال في تصريح لـ ے: «تقرَّر حفظ الشكوى وتجميدها، لأنه لا يجوز اتخاذ إجراء ضد فرد. فإذا ما اتُّخذ إجراء فيجب أن يشمل جميع من يحصلون على تمويل أجنبي».

الصباغ، أرسلت رداً للمواقع الإلكترونية التي نشرت خبر شكوى العموش. الرد الذي نشره موقع عمون فقط، جاء فيه: «شركة أريج مسجّلة لدى مراقب الشركات في وزارة الصناعة والتجارة بتاريخ 19/6/2006، وأنا شخصياً لستُ شريكة فيها، أو مالكة لها، إنما أعمل فيها كمديرة تنفيذية مخوّلة بالتوقيع على مراسلاتها هنا».

شركة أريج «لا تخفي نفسها، ولا مصادر تمويلها»، وتعلن عبر موقعها الإلكتروني بأنها شبكة «إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية»، وهي «مؤسسة غير ربحية، تضم مجموعة إعلاميين عرب ومؤسسات إعلامية عربية بالتعاون مع مؤسسة دعم الإعلام الدولي IMS التي تتخذ من العاصمة الدنماركية مقراً لها، وأيضاً منظمة الصحافة الاستقصائية الدنماركية FUJ».

تأسست أريج، العام 2005، بعد مجموعة لقاءات في كوبنهاغن، دمشق، بيروت وعمّان، بهدف «نشر ثقافة الإعلام الاستقصائي في المنطقة»، بحسب ما جاء في الموقع.

منذ تأسيسها، درّبت الشبكة مئات الصحفيين العرب على كيفية إجراء التحقيقات الاستقصائية، وَرَعت، تقنياً ومالياً وقانونياً، أكثر من 90 تحقيقاً استقصائياً، استفادت منها وسائل إعلامية عربية في الأردن، سورية، لبنان، البحرين، مصر، العراق، فلسطين واليمن.

آخر نشاطات «أريج» محلياً، تنظيم دورة تدريبية انتهت مطلع تشرين الأول/أكتوبر في يومية الغد، بمشاركة عشرة صحفيين تلقّوا تدريباً مختصاً في إجراء التحقيقات والحماية القانونية.

«لو لم تكن أريج أحدثت تقدماً في الصحافة الاستقصائية، لما كنا في الغد قد تعاوَنّا معها وخصصنا صفحات لرصد نشاطاتها وتحقيقاتها»، يقول رئيس تحرير الغد موسى برهومة لـ ے.

في الأردن، وبقية البلدان التي تعمل بها الشبكة، تعاني الصحافة من قصور واضح في إجراء التحقيقات الاستقصائية، لأسباب من بينها ضعف التدريب، لذلك فإن عمل الشبكة في الأردن «قدّمَ خدمة غير مسبوقة للصحافة المحلية، بخاصة أن المستقبل هو للصحافة الاستقصائية»، وفقاً لبرهومة، الذي يجزم أن «ما قامت به أريج أمر يستحق الإشادة والدعم والتشجيع»، مضيفاً أن إثارة مسألة التمويل الأجنبي «لا تخدم الصحفيين حين ننظر إلى مؤسسة كهذه بالتشكيك والطعن».

من بين وسائل الإعلام التي استفادت من خدمات «أريج»، صحيفة العرب اليوم. مدير تحرير الصحيفة فهد الخيطان قال لـ ے، إن «تجربة الصحافة الاستقصائية في الأردن حديثة نسبياً»، وأضاف أن «أريج» نجحت في «تحويل هذه التجربة إلى واقع ملموس في الصحافة المحلية».

يؤكد الخيطان أن هذه التجربة، أثمرت نتائج ممتازة، وبخاصة على صعيد «تدريب كوادر صحفية وتهيئتها لخوض هذا النوع من العمل الصحفي، واكتساب الخبرات والمهارات اللازمة لإجراء التحقيقات الاستقصائية». ويضيف: «عدد من الزملاء التحقوا بدورات أريج، وخرجوا بخبرة ومعرفة واسعة ساعدتهم إلى حد كبير في العمل».

ما ذهب إليه برهومة والخيطان، وهما صحفيان بارزان ويحظيان بمناقبية في العمل ومصداقية عالية، يؤكد أهمية الصحافة الاستقصائية والدور الذي تؤديه «أريج» في رفع سوية المهنة، ليقوم الإعلام بدوره الرقابي الموضوعي، ويسهم في توسعة المجال العام وتعزيز الديمقراطية.

صلاح العبادي، صحفي عمل مع الشبكة، وأنجز تحقيقات حول مراكز دراسات الأدوية، وحول المرافق الصحية في المدارس الحكومية، استغرب من إثارة «تهمة» التمويل الأجنبي ضد «أريج» ومديرتها التنفيذية، موضحاً: «الغاية من التمويل الذي تتلقاه الشبكة، إعداد صحفيين قادرين على كتابة الأعمال الصحفية الاستقصائية، وهنا يكتسبون مهارات العمل الصحفي الاستقصائي والمهارات القانونية ومهارات التعامل مع شبكة الإنترنت وكيفية استخدام محركات البحث في العمل الصحفي بطريقة صحيحة».

وبحسب العبادي، «ليس هناك أي مؤسسة في الأردن تقدم للصحفي ما تقدمه له شبكة أريج، التي استطاعت النهوض بالصحافة ونقلها بشكل نوعي».

العموش، الذي تقدم بالشكوى ضد الصباغ، اتهمته تعليقات على المواقع الإلكترونية بأنه استخدم موضوع «التمويل الأجنبي»، مدخلاً للهجوم على الصباغ، وأن شكواه كيديّة وخلفها دوافع شخصية.

عضو في مجلس نقابة الصحفيين، طلب عدم نشر اسمه، أكد لـ ے صحّة ما تناولته تلك التعليقات، وأضاف أن نقيب الصحفيين وجميع أعضاء المجلس، أدركوا أن الشكوى «كيدية»، لذلك جرى «تجميد النظر فيها».

مصادر في مجلس النقابة، كشفت لـ ے، شريطة عدم الإفصاح عن هويتها، أن جذور القضية تعود إلى تقرير نشرته الصبّاغ في صحيفة الحياة اللندنية حول الزرقاوي، على إثر تفجيرات عمّان 2005، ما أدّى إلى اتخاذ موقف منها منذ ذلك الحين. العموش بدوره، رفض التعليق على الموضوع برمّته.

«التمويل الأجنبي ظاهرة موجودة في البلد»، يقول الخيطان، «المهم أن يجري توظيفها باستمرار لخدمة المصلحة العامة، وأن تخضع الأموال التي تنفقها المؤسسات للرقابة والمحاسبة، وأن لا يكون هناك استثمار لهذه الأموال لأغراض شخصية أو لأجندات أجنبية».

هذا الرأي الذي يتبناه الخيطان، غير متَّفَق عليه، داخل نقابة الصحفيين. «هناك خلاف داخل مجلس النقابة حول قضية تلقي صحفيين ومؤسساتٍ صحفية تمويلاً أجنبياً»، يقول توبة، ويضيف: «الغالبية ترى أنه من الممكن تلقّي تمويل أجنبي في مجالات مهنية تقنية إعلامية بعيداً عن القضايا الجدلية، مثل توجيه الإعلام في تغطيته لقضايا اجتماعية مثل قضايا المرأة مثلاً. وهناك أقلية، وأنا منها، أعارض تلقّي التمويل الأجنبي من حيث المبدأ».

الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، محمد المصري، يرى أن الحكم الفصل في هذا الموضوع هو «الشفافية». ويوضح: «ليس من حق أحد القول إن هذا الشخص أو ذاك تلقى تمويلاً أجنبياً أو وطنياً. الشفافية تحل كل شيء، ولا تعطي فرصة لنقاد التمويل الأجنبي من استخدامه سلاحاً».

ناشطون في المجال العام يبررون سبب إقبالهم على التمويل الأجنبي، بـ«ضعف إقبال القطاع الخاص على دعم مؤسسات المجتمع المدني، ومن ضمنها المعنية بالإعلام، حريةً وتدريباً». وفقاً للمصري، فإن «العقلية السائدة في القطاع الخاص أو في عالم الأثرياء في بلادنا، هي عقلية ثواب في الجنة ببناء مسجد، وكأن ذلك وحده يمنح المرء صكَّ غفران كما في العصور الوسطى». وهذا، كما يرى، يعكس غياب التفكير في العمل التنموي والمساهمة في المجتمع وأداء دور ضمن ما يُدعى المسؤولية الاجتماعية، «قليلون جداً أولئك الذين يفكرون في دعم مؤسسة أكاديمية أو مركز أبحاث مثلاً. وبالتالي للأسف، ليس هناك سوى التمويل الأجنبي لدعم العمل التنموي».

مع ذلك، يتابع المصري، فإن «الدعم الأجنبي شحيح، وكل ما يُثار عنه يوحي بأنه بمئات الملايين، وبأنه أنشأ جامعات ومؤسسات كبرى، وهذا غير صحيح. مقارنة الدعم الأجنبي لإسبانيا في مرحلة التحول الديمقراطي بذلك المقدَّم للأردن حالياً، تكشف أن ما حصلنا عليه لا يستحق الذكر. تلقّي التمويل الأجنبي من الدول الغنية حق طبيعي لنا».

الجديد في الجدل الذي دار هذه المرة حول موضوع التمويل الأجنبي و«خطورته»، أنه كان جدلاً محدوداً وامتد لفترة قصيرة جداً، قبل أن يغيب عن الساحة، مما ينبئ بأن هذه «التهمة» آخذة في التلاشي شيئاً فشيئاً، بعد ثبوت تهافتها وعدم صمودها أمام الحقائق والوقائع.

«تهمة» التمويل الأجنبي: فرقعة أخيرة قبل التلاشي
 
01-Nov-2009
 
العدد 5