العدد 5 - مساحة حرّة
 

الديمقراطيات تفرز رؤساء وزاراتها عبر أحزابها، ومن خلال عملية مهنية وموضوعية يَعتمد فيها الاختيار على الكفاءة والثقافة والقدرة الشخصية متعددة الجوانب. ويستغرق هذا الفرز وهذه الغربلة سنوات طويلة من العمل الحزبي والنيابي والاجتماعي.

وتأخذ الديمقراطية منحى مختلفاً في المنطقة العربية، وبخاصة بما يتعلق باختيار رئيس الوزراء. في الأردن، فإن نظام الحكم فيها نيابي ملكي وراثي، وفقاً للمادة الأولى من الدستور. ومنح الدستور الملك حق اختيار رئيس الوزراء وتعيينه واختياره (حسب المادة 35)، للأسباب والظروف والأهداف التي يراها الملك مناسبة، مما يفتح الباب أمام احتمالات متعددة حول هذا الخيار.

إن غياب حياة حزبية وسياسية حقيقية وراسخة، لعدم وجود أحزاب قادرة على إيصال كتل سياسية للبرلمان تمتلك التخطيط الاستراتيجي والنفَس الطويل وبرامجَ اقتصادية واجتماعية، ورؤية واضحة في الإصلاح والتطوير، يؤثر في التطبيق الديمقراطي السليم في البلاد. ونحن نسمع منذ زمن في أوساط المثقفين والسياسيين وفي الإعلام دعوات لإحياء الحياة الحزبية لتحديث طريقة اختيار رئيس الوزراء، بحيث يكون ذلك مبنياً على أسس متفق عليها، تواكب توجهات الحياة السياسية. وأنا من هذا الرأي. هذا الوضع جعل من منصب رئيس الوزراء موقعاً تقلّبَ عليه العديد من الرؤساء خلال حقب زمنية قصيرة. وهذا أمر يلاحظه معنا العالم باستغراب. وبهذا، يصبح رئيس الوزراء واقعاً تحت تأثيرات قد تكون متناقضة أو متشابكة، ويجعله خاضعاً لتقييمات وضغوطات لا تتعلق بحسن إدارته لعمله المهني أو الموصوف في الدستور. فمن جهة، عليه أن يراعي توجهات القيادة السياسية المطّلعة على كل الظروف الإقليمية والخارجية والداخلية، ومن جهة أخرى عليه مراعاة تطلّعات الرأي العام ومزاجه الذي يكون في بعض الأحيان غير متوافق مع السياسات، أو غير مطّلع وربما غير موضوعي في حكمه على الأمور.

رغم تلك العوامل والظروف، إلا أن هناك قواعد ومبادئ يجب أن يتقيد بها الرئيس، وأن يدير سياسته على أساسها، وهناك صفات ومتطلّبات يجب أن تتوافر فيه، منها أن يكون عارفاً ومستوعباً لمفاهيم إدارة الدولة ومعانيها العميقة، من حيث ترجمتها لتتوافق مع المصالح الوطنية العليا، ولمفهوم الحفاظ على المال العام، والتوازن الكامل في إدارة مصالح الدولة الداخلية والخارجية وبين مؤسساتها الدستورية، والابتعاد عن المشاعر والمصالح الجهوية والفئوية والطبقية، إضافة إلى تطبيق صارم لمبدأ سيادة القانون. وبمفهوم فلسفي، على الرئيس أن يوثق الصلة بين عقله وقلبه، وأن يقرّب المسافة بينهما.

تطبيق هذه المعادلة في الوضع الدستوري المذكور أعلاه، أمر صعب للغاية. وقليل من رؤساء الحكومات استطاع التعامل معها ونجح. وأزعم أنني حاولت القيام بذلك كرئيس للحكومة العام 1991، أي التوفيق بين حاجات العقل ومتطلبات القلب. لكن الظرف الدولي والإقليمي، وليس أي شيء آخر، هو الذي أخلَّ بتلك المعادلة الدقيقة. لم أتمكن من إبقاء ذلك التوازن الدقيق بين هدف جلالة الملك الحسين رحمه الله، في إجراء الإصلاح والدفع باتجاه الديمقراطية وتحرير الأردن من عنق الزجاجة في ذلك الزمن الصعب، وبين مزاج بعض القوى السياسية الممثلة في مجلس الأمة وخارجه وتوجهاتها وتطلعاتها، ولا بين مواءمة الظرف الإقليمي والدولي وحاجات الدولة بكل مكوناتها مع تطلعات القيادة.

ووجدت أن استقالتي تلبي متطلبات الأطراف الثلاثة: القيادة، المعارضة والظرف الإقليمي، من دون أن تضر بالمصلحة الوطنية العليا. فالاستقالة أفادت القيادة والوطن، لأنها حافظت على الزخم الديمقراطي الوليد، وسمحت للأردن بالمرور سالماً من عنق زجاجة المأزق الإقليمي والدولي الذي أحاط بالكيان الأردني بخطر داهم وحقيقي، وحفظت للنظام موقفه ومصداقيته الداخلية وسيطرته على مجريات الأمور، وتخلّت تلك الفئات السياسية المعترضة عن موقفها المتشنج، رغم أن مواقف القيادة والحكومة السياسية التي تلت حكومتي لم تتغير.

يقول بعضهم إن الإصلاح والديمقراطية دفَعا ثمن تلك الاستقالة. لا أختلف معهم في ذلك جزئياً، لكنني أضيف أن هناك أسباباً أخرى لذلك. ولا أعتقد أن أي تراجع حدثَ كان فقط سببه غياب حكومتي، بل هناك أسباب أخرى له. ويمكن القول إن اتفاقية أوسلو وما تلاها من توقيع اتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية، كانت من بين تلك الأسباب. كما أن «تغوُّل» مجلس النواب الحادي عشر –قبل حكومتي وأثناءها وبعدها- جعل القيادة السياسية تتوجس خيفةً من هذا الوضع. الأداة التي استُعملت تمثّلت في قانون الصوت الواحد.

بموجب الدستور الأردني، فإن الملك هو رأس السلطة التنفيذية، لكنه يحكم من خلال وزارئه. وهذا مفهوم وواضح ومتفَق عليه بين كل المستويات الرسمية والمؤسسات الدستورية. وتمت ممارسته بدقة وبنجاح منذ سنوات الإمارة وما بعد الاستقلال. وممارسته اليوم تُعدّ وصفة صالحة لعلاج بعض الضعف الإداري الذي نشهده في الجهاز الحكومي، وهو علاج لحالة الضياع والتشتت داخل المجتمع الأردني.

والأمر كذلك، لأن الملك محصَّن من كل تبعة ومن كل مسؤولية. أما سلطة التنفيذ فهي عند الحكومة ورئيسها، وعليهم جميعاً أن يوفروا القيادة السياسية والإدارية للدولة بكل ثقة وحكمة، ودائماً الملك هو الحكَم على نجاح الحكومة - أيّ حكومة - أو فشلها.

كل شعوب الأرض تحتاج إلى قيادة إدارية. في الأردن، القيادة السياسية متوافرة، وتقوم بواجبها كاملاً. أما القيادة الإدارية فهي ضعيفة وغائبة إلى حد ما.

ماذا يعني أن تكون رئيساً للوزراء في الأردن؟
 
01-Nov-2009
 
العدد 5