العدد 4 - ترحال
 

الرحلة إلى وادي الكرك ليست كغيرها. فالمجموعة التي تحضّرت للمسير والتسلق في هذا الوادي اعتراها قدْر من الخوف، وليس الشوق كما هي الحال في رحلات أخرى.

الرحلة، كما قال قائدا المجموعة نهاد الحصري وأمجد محفوظ، «ليست ترفيهية»، بل تتوخى الوصول إلى مستويات متقدمة من المهارات، تؤهل المغامرين للمسير في وديان ومناطق «أكثر صعوبة».

مدخل الوادي لا ينبئ عمّا ينتظر المرءَ في داخله. توالت الخُطى في سفح الوادي على حصى تجمّعَ مع انحدارة السيل من عين سارة شمالاً. وبعكس بقية الأودية، بدا مدخل الوادي فسيحاً جداً، الجبال بعيدة بعضها عن بعض. على جنباته مجموعات من البدو اتّخذت أرجاءه مسكناً لها، كيف لا وهو مصدر لا ينضب للماء والكلأ، حتى في أكثر شهور الصيف سخونة.

أصعب ما يواجه المرء في الوادي، اجتياز مدخله الذي يستغرق المشي فيه ساعتَين متواصلتَين دون الاهتداء إلى أيّ ظلٍّ يقي سكان المدينة مثلَنا حَرَّاً لم يعتادوا عليه. وبينما وقف شبان صغار من البدو غير آبهين بالشمس يتفرجون علينا، كنّا نغذ المسير أملاً في وصولٍ أسرع إلى ظلّ تصنعه جبالٌ تقترب من بعضها بعضاً، لتخلق جواً أفضل لسكان المدن الذين ألفوا رفاهية الأبواب المغلقة والمكاتب المكيَّفة.

حديث أفراد المجموعة دار حول التمارين التي ينبغي تعلُّمها في الساعات المقبلة. فريق «بروهايكرز» أخذ على عاتقه تجريب مجموعة من المغامرين المخْلصين شيئاً فشيئاً على مهارات التسلق والنزول الجبلي والتعامل مع الظروف البيئية لتأهيلهم للمشاركة في رحلات ذات مستوى متقدم. وبينما كان بعض أفراد المجموعة يتطلع لبدء التدريب، نادى آخرون مازحين بضرورة الاستمرار في الرحلات الترفيهية.

المشي في الوادي يميزه وجود سكان المنطقة «المحليين»، الذين يمثّل لهم مرور المجموعات السياحية مصدرَ تسلية. وفضلاً عن سكان القرى الصغيرة التي تنتشر في الوادي، يأتي الكثيرون من مدن مجاورة، مثل الكرك والطفيلة ومعان، لممارسة هواية صيد العصافير بالخرطوش، وكانت ترعبنا أصوات العيارات النارية التي تتردد أصداؤها بين جنبات الوادي.

عند الوصول إلى الصخرة الكبيرة التي يبدأ من عندها النزول الجبلي، بدت المشاعر تختلط بين الخوف والترقب. تعليمات الحصري كانت واضحة، وأهمها: تطبيق التعليمات بحذافيرها، عدم التهور، عند الصعود إلى أعلى من المفيد عدم النظر إلى الأسفل، الوثوق بالحبل الذي يحمل الشخص، والنظر إلى الأمام على الدوام. عدم تطبيق التعليمات يتضمن خطورة كبرى، وأيّ إصابة قد تعني أن المجموعة كلها ستتأثر، لصعوبة الخروج من الوادي، الذي كنا قطعنا فيه مسافة تطلّبت نحو خمس ساعات من المشي، ما يعني أن أي مصاب سيُحمَل على الأكتاف، وهذا ما لا يريده أيّ منا.

الصخرة التي مارسنا مهارات الهبوط الجبلي عليها لا تبدو مرتفعة إذا ما نظر إليها المرء من الأسفل. «هل ارتفاعها خمسة أم ستة أمتار؟» كنا نتساءل وابتساماتٌ تعلو وجوهنا. لكن عند الصعود إلى أعلى، فإن الصورة تختلف تماماً. المنظر مهيب، والشلال الذي ينحدر على جنبات الصخرة يدفع إلى التفكير في أمور أخرى غير جماله بالتأكيد.

الحصري يتمتع بمهارات عسكرية مكّنته من زرع الثقة في قلوب المتفرجين من أفراد المجموعة. كاتبة هذه السطور تحمست بشدة في البداية، لكن الصعود للصخرة خفّضَ من منسوب حماستها. الموقف مهيب جداً، فقد كان علينا النزول وظهورنا للأسفل، ما زاد من صعوبة العملية. وبعد تعلُّم المهارات الأساسية والنزول لمرة واحدة، يضحك المرء خجلاً بسبب ما أبداه من خوفٍ في غير محلّه، ويستذكر بفكاهةٍ العبارات التي تفوّه بها كاشفةً عن جبنه. النزول ليس بتلك الصعوبة في الحقيقة. في المرة المقبلة في وادي نميرة، عندما يكون الهبوط من جبل أعلى، ربما، ربما فقط، لن يعترينا الخوف نفسه.

مدخله لا ينبئ عمّا ينتظر المرءَ في داخله - وادي الكرك ينادي المغامرين الشجعان
 
01-Oct-2009
 
العدد 4