العدد 4 - ثقافي | ||||||||||||||
كتب تتأمل موضوع «الكارثة»، الذي يعني خراباً لا متوقَّعاً، فسّره الإنسان، وما زال، بأسباب مختلفة، منذ الكوارث القديمة وصولاً إلى أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر في مطلع الألفية الثالثة. التعايش مع الكارثة نشر المؤرخ الفرنسي فرانسوا والتر، العام الفائت، كتاباً عنوانه: الكوارث. تاريخ ثقافي: من القرن السادس عشر إلى القرن الحادي والعشرين. قرأ المؤرخ «الكوارث» في حقب ثلاث: العصور الوسطى، التي فسر فيها الإنسان الأوروبي الكارثة بالإرادة الإلهية، التي ترضى عن الأخيار وتُنزل بالأشرار عقاباً غير متوقَّع، لأنهم انزاحوا عن الطريق القويمة. تتعين الحقبة الثانية بالأزمنة الحديثة الممتدة من 1755 إلى 1940، التي اعتقد فيها «العقلانيون» أن الإنسان قادر على تفسير أسباب الكارثة. أخذ هؤلاء العقلانيون بمجاز «الإنسان سيد الطبيعة»، الذي قال به فارس الفلسفة الحديثة، الفرنسي رينيه ديكارت، الذي عدَّ الطبيعةَ «آلة» قابلة للتفكيك والتركيب، يستطيع الإنسان العقلاني السيطرة عليها، واختراع «آلات» تشبهها. غير أن هذا «الإيمان المتفائل» اهتزّ بعد الحرب العالمية الأولى 1914 - 1918، التي ألحقت بأوروبا دماراً هائلاً، وزاد الاهتزاز بعد الحرب العالمية الثانية 1939 -1944، التي أنزلت بالبشرية كلها خسارة فادحة. الآثار المدمرة للحربين قادت المؤرخ إلى تحديد حقبة ثالثة، جاءت مع بداية الحرب الكونية الثانية، دعاها: «الكارثة في زمن ما بعد الحداثة»، التي بيّنت أن علوم الإنسان ومعارفه واختراعاته تضيف إلى الكوارث الطبيعية، كوارثَ إنسانية، أشدّ هولاً وأوسع دماراً. ولعل استمرار الكارثة، في حقبتَي الحداثة وما بعد الحداثة، هو الذي دفع بالمؤرخ إلى ثلاث نتائج، بشكل مباشر، أو غير مباشر، تقول الأولى: إن في الطبيعة الإنسانية هشاشة لا يمكن تجاوزها، دون النظر إلى مستوى الارتقاء في ميدان الحاجات المادية، الذي لا يجد موازياً له في حقل القيم الروحية والأخلاقية. لعل هذه المفارقة، وهنا النتيجة الثانية، هي التي تفرض على الإنسان أن التعايش مع الكارثة، ما دام أنه يُنتج كوارث إنسانية مستمرة، ولا يستطيع حيال الكوارث الطبيعية شيئاً. تتجلى الثالثة في أطروحة فكرية عميقة الأهمية تقول: إذا كانت عدوانية الإنسان غير قابلة للتهذيب، فإن «الحداثة»، في مشتقاتها المختلفة، أسطورة من الأساطير لا أكثر، سواء فسّر الإنسان الكارثة بالإرادة الإلهية، أو بإرادة غير إلهية. فكل شيء في مكانه، يحيل إلى طبيعة بشرية تبشّر بالخير وتزرع الشر في أكثر من مكان. اعتمد الباحث على مادة فكرية واسعة، تتضمن التاريخ والفلسفة واللاهوت والآداب والرواية والسينما، منتهياً إلى عمل موسوعي متوَّج بالتشاؤم. Framçois Walter Catastrophes.une histore culturelle, Seuil, paris, 2008, 380 p. إدارة الكوارث والخضوع السعيد رصد فرانسوا والتر «التاريخ الثقافي» للكوارث من القرن الثامن عشر إلى اليوم. اكتفى رينيه ريزل وجيم سبرن، في كتابهما النزوعات الكوارثية -إدارة الكارثة والخضوع المستمر بتأمل الآثار السلبية الصادرة عن المجتمع الصناعي. يؤكد هذا الكتاب، من حيث المنظور، الفكرتين التاليتين: تُفسَّر الكوارث بالعالم الإنساني دون الركون إلى إرادة خارجية، وهي لا تفسَّر بفرد يقع في الخطيئة، أو بأفراد منغمسين في الرذيلة، بل بجهاز بشري مختص يتضمن عناصر عديدة: الخبراء، المستشارون، منتجو المعرفة، أهل المختبرات، أصحاب القرار والاحتكارات، المجمّعات الصناعية، وسائل النقل،...... تقوم هذه العناصر، في كفاءاتها المختلفة، بإدارة تدمير البيئة وتسميم المناخ وكسر التوازن في الطبيعة، و«محو عصر البراءة»، والاستعاضة عنه بعصر صناعي - علمي عنوانه: الإثم وتدمير الطبيعة والإنسان. يعود هذا الكتاب، بشكل آخر، إلى «أسطورة الحداثة»، أو «الحداثة كأسطورة حديثة»، ذلك أن العقل العلمي - التقني لا ينتج «مملكة السعادة»، بل ينجز مملكة سوداء، تستعيض عن الطبيعة الإنسانية الأولى بطبيعة ثانية خاضعة إلى شروط «حداثة المجتمع بعد الصناعي». يندد المؤلفان بالسياسة الصناعية، التي ترى المنتوج دون غيره، وبالبيروقراطية ما بعد الصناعية، التي توحّد بين الربح والتطور التقني ولا تسأل عما هو خارجها. ومع أن المؤلفين يطرحان قضية حقيقية بنبرة صادقة، فإن حديثهما ليس مقنعاً، لأنه يساوي بين الصناعة، من حيث هي، والبيروقراطية الصناعية، وبين العلم، من حيث هو، وتطبيقاته المستثمرة بشكل خاطئ. لهذا فإن الحلول المقترحة، التي يقولان بها، فقيرة المعنى في نهاية المآل، مثل: تعديل نظام الحاجات، الذي يعني اكتفاء الإنسان بحاجات أقل، وحضّ الفرد على مغادرة المدينة، والاحتفال بحياة الريف البسيطة. قدّم المؤلفان جواباً زائفاً عن قضية حقيقية، لأن العطب لا يقوم في الحاجات الإنسانية والمتنامية، بل في مجتمع استهلاكي ينشر أيديولوجيا استهلاكية تخلط بين حاجات حقيقية وأخرى زائفة، مفترضةً، بشكل زائف، قدرةً شرائية متساوية بين المواطنين جميعاً. R.Riesel et J. Sempran Catastrophismes, Editions de l’Encylopédie des nuisances, Paris, 2008, 136 p. الكارثة بين الاختراع والتسليع ليس موضوع الكارثة جديداً على الفكر الغربي، سواء كان ذلك في الأدب والسينما أو في ما هو خارجهما، منذ أن جاءت ماري شيلي بشخصية «فرانكشتاين»، التي أبصرت الشر المحتمل في إمكانيات البحث العلمي، وصولاً إلى روايات ج. هـ. ويلز والدوس هكسلي. بيد أن هذه الأعمال، التي انطوت على أبعاد أخلاقية نبيلة، ما لبثت أن تناتجت، بشكل هزيل، في أعمال أخرى متعددة الاتجاهات، إلى أن خلقت جمهوراً خاصاً بها. انزاح السؤال، في هذا التحديد، من البعد الأخلاقي إلى التجارة، ومن تأمل حدود العقل المفيد إلى استثماره بشكل غير عقلاني. جعل هذا من الكارثة «موضوعاً جمالياً «، قوامه الكتابة والمتخيل وقدر ساذج من المعرفة العلمية. يتجاوز الأمر، بداهةً، التسليعَ، ويتمثل، أولاً، بمنظور إنساني كارثي الدلالة، يقول بالتعايش مع الكارثة ويعدّها موضوعاً عادياً، يأتي ويذهب، كما لو كان فصلاً خاصاً من الفصول الأربعة. نقد فريدريك نيرا، في كتابه السياسة الحيوية والكوارث، المنظور التبسيطي لمعنى الكارثة، ورأى في إنتاج الكوارث، بأدوات علمية - سياسية، انتهاكاً لـ«الآخر» الأعزل: انتهاكاً لما يرغب الإنسان في أن يراه ويعيشه، وانتهاكاً للمكان الذي تدمره الصناعات الكيمياوية، وانتهاكاً للفضاء اليومي الذي تحكمه السياسات اللاعقلانية. تبدأ هذه السياسات بـ«أنسنة العالم» وتنتهي إلى تدميره، وتبدأ بوحدة الإنسان والبيئة وتقوم بما يفصل بينهما. والعلاج لا يكون «في انتظار الكارثة»، بل في شيء آخر عنوانه «المسؤولية الأخلاقية الجماعية»، التي تعرف أن مستقبل الإنسان من مستقبل بيئته، وأن مستقبل المجتمع الإنساني من مستقبل البيئة الإنسانية الشاملة. إذا كان «نيرا» يرى القضية ويقترح حلاً لها، فإن القائلين بـ«التعايش مع الكارثة» يصلون، بوعي أو من دونه، إلى نتائج سياسة تكرّس الوضع القائم. فالقول بديمومة الكارثة يعني القبول بها، مثلما أن التعايش معها يجعل من «الخوف» عنصراً داخلياً في الشخصية الإنسانية، يروّج للقدرية واعتناقها. لا غرابة أن يرفض الفيلسوف الإيطالي الشهير «أنطونيونيجري» مفهوم الكارثة لسببين: فهو ينشر القدرية والإذعان وصولاً إلى «أصولية جديدة» تطالب بالعودة إلى «حياة ريفية»، وهو يبدّد معنى التاريخ ويجعله غير قابل للتحليل، ما دام أن الإنسان لا يستطيع حيال الكارثة شيئاً. وهذا «غير القابل للتحليل» جزء أساسي من فلسفات الخضوع في أشكالها المختلفة، لسبب بسيط يقول: يصلح الإنسان ما يستطيع تحليله. F. Neyrat : Biopolitique des catastrophes Editions: dehors, paris, 2008,170 p. |
|
|||||||||||||