العدد 4 - ثقافي | ||||||||||||||
ضياع فلسطين والخلل القديم منذ بداياتها الروائية، جعلت سحر خليفة من وضع المرأة الفلسطينية مجازاً للقضية الوطنية، مقرّرةً أن مجتمعاً لا يقبل بتحرير المرأة عاجزٌ عن الدفاع عن أرضه. لذلك أخذت المرأة عندها دلالتين: فهي شخصية بين شخصيات أخرى، وهي «فلسطين في شكل امرأة»، تواجه قامعاً إن شاءت التحرّر، وتستمر صاغرة إنْ امتثلت لقواعد المجتمع وتقاليده. ترجع سحر خليفة، في روايتها الجديدة: أصل وفصل، إلى بداية ثلاثينيات القرن الماضي، التي سبقت ثورة 1936-1939. يشي العنوان بما تريد الرواية أن تصرّح به، ذلك أن العودة إلى الأصل كشفٌ عن أفقه القادم. والأصل القديم، في علاقته بالصراع الفلسطيني - الصهيوني، مسكون بالعطب، ومثقل بما يجعل المجتمع الفلسطيني مهزوماً قبل الذهاب إلى المعركة. فإضافةً إلى وَهْن في القيم والأخلاق والمعايير، تجتاح الولاءات الصغيرة الوطنَ وقضيته، يوطّدها انفصال المدينة عن القرية، وانفصال المتعلّم عن غير المتعلّم، وانفصال القيادة عن الشعب، وانفصال الشعب عن ذاته،... ترجمت الروائية هذا كله بشخصيات أنانية جاهلة تضع مصالحها فوق المصلحة الوطنية، وبأخرى فقيرة تجهل معنى المصلحتين معاً. اتخذت المؤلفة، وليس بعيداً عن بعض تقاليد نجيب محفوظ، من العائلة مرجعاً لتوليد الفعل الروائي وتطويره. ذلك أن في هذا المرجع ما يلبي أهدافاً روائية - فكرية متعددة: فالعائلة مجال لوصف شخصيات إنسانية مختلفة، وهي، في اللحظة عينها، فضاءٌ لقراءة القيم والأعراف والتقاليد، وكل ما يخبر عن تقدم المجتمع أو تخلّفه. وإلى جانب هذا وذاك فهي حيّز موائم تقرأ فيه الروائية موضوعها الأثير: المرأة الموزعة على صور متعددة: الجدّة البصيرة التي ترى ما لا يراه «الزعماء»، والأم الصابرة المقاتلة، والبنت التي تُسَلَّع وفقاً لأحوال المصلحة، والبنت - الدمية التي تشاء ما شاء الأهل لها، والفتاة المتعلّمة، التي لا ينقصها من الذكاء شيء. يتعيّن تحرر الفرد، في هذه الحدود، بمدى التصاقه بالعائلة أو بالانفصال عنها، الذي يجعل منه «فرداً»، يقود ذاته ولا يُقاد. وبما أن الاتصال والانفصال العائليَّين يتحدّدان، في الشرط الفلسطيني، بالوعي الوطني والأثر الناتج عنه، تبدو العائلة الفلسطينية، المحكومة بوعي متقادم، مجازاً للكفاح الفلسطيني وما انتهى إليه. ولعل هذا المجاز، اللصيق بمجتمع فلاحي، هو الذي أملى على الروائية، منذ البداية، أن تُدخل «العنصرَ اليهودي»، مشيرةً إلى المسافة الفاجعة بين الوعي الفلسطيني، في ذاك الزمان، و«الوعي اليهودي» الذي وحّد بين الغايات والوسائل. ثلاثة أمور تميّز رواية أصل وفصل: المادة التوثيقية الواسعة، والنقد العميق لبنية المجتمع التقليدي، والبعد التربوي الواضح، الذي قصدته الروائية بوعي حسيب. وضع هذا البعد في الرواية تطوراً زمنياً خطياً، يوازي التاريخ ولا يتيه عنه، وأملى لغة بسيطة «حكائية»، تنقل الخبر وتبني الفضاء الاجتماعي في آن. نقرأ في نهاية الرواية، المنفتحة على العتمة والتشاؤم، الجملة التالية: «انتهى الجزء الأول»، التي تَعِدُ بجزء ثانٍ يمتد من 1939 إلى زمن «النكبة النكباء» بلغة بعضهم. سحر خليفة: أصل وفصل دار الآداب، بيروت، 2009، 456 صفحة ضياع آخر وخلل لا ينتهي سردَ المفكر السياسي والصحفي والروائي فيصل حوراني عودته إلى غزّة في تشرين الثاني/نوفمبر 1995، في كتاب عنوانه: الحنين - حكاية عودة. ابتعد حوراني كثيراً عن زمن «القسّام»، الذي انتهى إلى هزيمة، واكتفى كتابه بكلمة «حكاية» التي سردت هزيمة لاحقة في زمن آخر. كما لو كانت «الحكاية الجديدة»، إعادة شرح، لذلك «الخلل القديم»، الذي يكاد يبدو «طبعاً فلسطينياً». مع أن حوراني استبعد عن غلاف كتابه كلمة «رواية»، فإن في هذا العمل عناصر حكائية متعددة، تجعل منه عملاً روائياً بامتياز. فالسارد، الذي هو المؤلف، شخصية محددة المعالم تحكي أقدارها الموزعة على المنفى و«الوطن المستحيل»، وهو مرجع الكلام، كما يقال أدبياً، يختار لغة الوصف والحوار، ويلوّن اللغة بما تقضي به الأحوال فهي: ساخرة، جادة، تأملية، تحليلية، تستنفذ الخارج وتعود، حين تشاء، إلى عالم السارد الداخلي، محدّثة عن الغضب والأسى والرضا الناقص أبداً. إضافةً إلى السارد، الذي هو مفتتح الكلام ونهايته، يحتشد النص بشخصيات مختلفة: الصديق والأخ و«ضابط العبور الإسرائيلي»، الذي يُكرِه الفلسطيني على المقبول والمرفوض معاً، و«جندي السلطة الوطنية»، الذي يتطّلع إلى «أوراق» مهَرَها الضابط الإسرائيلي بختمه، وصولاً إلى «الراحل ياسر عرفات»، الذي دخل مطمئناً إلى رهانات كثيرة لم يخرج منها سالماً. أمّا «الحبكة» بلغة معينة، «الفعل الروائي» بلغة أخرى، فتتمثّل بلاجئ فلسطيني، يعيش في المنفى، يقاتل من أجل المشاركة في تشييع أمه الراحلة، قاطعاً أكثر من حدود وعابراً أكثر من حاجز. بل إن في الحكاية - الرواية تلك «العبرة» الشهيرة، التي يحرص عليها الروائيون: «بقي لي ناس ووطن، الناس المحيطون بي، والوطن الذي لا وطن لي سواه». هكذا ينهي حوارني حكاية «عودته». أدرج السارد في نصه ثلاثة عناصر حكائية: بطل الحكاية، الذي يختصر في ذاته شخصية فلسطينية أدمنت «السؤال السياسي» وما هو قريب منه، و«طريق اللاجئ»، المنفتحة على القمع الإسرائيلي القديم و«اتفاق أوسلو»، الذي كلما أعطى الفلسطينيين درباً سلَبَهم مدينة. أما العنصر الثالث فقوامه «خطاب سياسي» مباشر، قرأ أحوال «الضفة والقطاع» في أحوال منظمة التحرير، وقرأ أحوال الأخيرة في شخص «مرجعها الأول»، الذي اختصر إرادات كثيرة إلى إرادته. رصدَ الساردُ الاغترابَ الفلسطيني، بعد أوسلو، في متاعب الطريق المفضية إلى غزة، الذي يبدو في عثاره الطويل خلقاً إسرائيلياً محضاً، لا يستطيع الفلسطينيون حياله شيئاً. يمتد الاغتراب من متاهة المنفى إلى «المرجع السياسي العام» في بطانته الفقيرة، كما لو كانت الأخيرة صورة عن «العائلة القديمة» التقليدية، التي تشل في الإنسان إرادته، حتى لو حاولت غير ذلك. فيصل حوراني: الحنين - حكاية عودة دار كنعان، دمشق، 2007، 109 صفحات استثمار الخلل وتجارة الأخلاق عادت سلوى جراح، في روايتها أرق على أرق، إلى غزة القديمة، ورأت إلى جانبها «غزة حديثة»، تعرف الأبراج السكنية والشاليهات والمراكز التجارية، وكل ما يحتفل به «المستثمرون»، الذين لا يكترثون بـ«اتفاق أوسلو»، ولا بالأحياء الفقيرة ومخيمات اللاجئين. أدارت الروائية حديثها حول أربعة مواضيع: تمزُّق العائلة الممتد من «الضفة» إلى مخيمات بيروت ومن «الخليج» إلى شوارع لندن، والمواجهة بين اللاجئ والمنفى، التي تصوغ إنساناً يصنع ذاته، إن وعى أسباب شقائه، أو تجعله منه «كائناً بيولوجياً» إن لم يستثمر شقاء التجربة. والموضوع الثالث الاغتراب الشاسع الباحث عن تحقق مستحيل، عنوانه «الحنين» إلى ما كان موحداً وانقضى. أما الموضوع الرابع، وهو الذي يشكل نواة الرواية الصلبة، فيتمثّل بفلسطيني جاء من لا مكان، من أروقة الفقر والجهالة، و«ناضل» على طريقته، إلى أن انتهى «رجلَ أعمال» مزدهراً في لندن. المواضيع الثلاثة الأولى تمدُّ الرواية بمادة حكائية، تلتبس بسيرة عائلة فلسطينية مجتهدة تعيش، في لندن، بعيداً عن الحرمان، بل تعيش «يسراً» يدفعها إلى العودة إلى «غزة» والمشاركة في «إعمارها». تتكشّف وجوه العائلة، التي ترسمها ذاكرة وطنية تضع الماضي في الحاضر، في شخصيات متعددة، تجوب شوارع لندنية تعرفها جيداً وترتاد الأماكن التي تسمح المدن الحقيقية بارتيادها. مع ذلك، فإن أسطورة الفلسطيني الخالص المتجانس لا وجود لها، فهناك الفلسطيني و«الفلسطيني الآخر»، الذي حوّل، بخسة عالية، الثورة إلى ثروة، وانتهى إلى كيان هجين يدعى: «رجل أعمال»، يتاجر بالمسموح والممنوع، ويسلّع «فلسطينية أخرى» أرادت حياة شريفة. الشخصية المتداعية الهجينة، التي أحسنت الروائية رسمها، تعطي أرق على أرق قيمتها الفنية والمعنوية والأخلاقية في آن. استعادت سلوى جراح، على طريقتها، ملامح «الفلسطيني النتن»، الذي عالجه غسان كنفاني في رجال في الشمس، مع فرق جوهري، فقد كان «أبو الخيزران» سائقاً بائساً فقير الحيلة، بينما «النتن الجديد» وجيه اجتماعي. انطوت الرواية، في شكلها التعليمي البسيط، على ثلاث مستويات متداخلة: مستوى أول أقرب إلى التقرير الصحفي؛ ومستوى نثري، إن صح القول، يستعيد تفاصيل الوطن الضائع بذاكرة جريحة؛ ومستوى رمزي، عماده الفلسطيني الذي يستثمر الفلسطينيين، لحظة، ويبتعد عنهم كلياً، في لحظة أخرى، ذاهباً إلى «تجارته». تأخذ الروايات الثلاث السابقة صفة الرواية - الوثيقة: كتبت سحر خليفة، في عمل واضح الرؤية، عن مجتمع تقليدي منعته أمراضه عن مواجهة «مشروع حديث»، وسردَ فيصل حوراني أحوال اللقاء الفاجع بين الحنين الكامل وشظايا الوطن، وتحدّثت سلوى جراح عن الحد الفاصل بين الفلسطيني الحقيقي والزائف، الذي يجعل منه تداعي القيم «وجيهاً اجتماعياً». سلوى جراح: أرق على أرق دار الانتشار العربي، بيروت، 2009، 276 صفحة |
|
|||||||||||||