العدد 4 - العالم
 

عندما لا يكون مستغرقاً تماماً في مصارعة الكونغرس العنيفة حول اقتراحه الخاص ببرنامج العناية الصحية –وهو أمر نادر الحدوث، نظراً لتشابك الموضوع- يعكف الرئيس الأميركي باراك أوباما، كما يقال، على دراسة خطة سرية أعدتها وزارة الدفاع البنتاغون لاستعادة زمام المبادرة في الحرب التي تقودها الولايات المتحدة في أفغانستان. وكان أوباما، الذي سبق أن أرسل 20 ألف جندي أميركي إلى ذلك البلد، ألمح إلى أنه ربما يوافق على اقتراح تقدَّم به القائد الأعلى للقوات الأميركية الجنرال ستانلي ماك-كريستال، يقضي بإرسال المزيد من القوات إلى هناك.

كن التنبؤ بها: يرث رئيسٌ جديد حرباً كان بدأها أو استأنفها سلفه، ويجد نفسه في مواجهة اتخاذ القرار، إما بتكثيف الصراع، أو بالانسحاب منه. ولأنه عادةً ما يأنف من ترْك تضحيات الذين سقطوا تذهب هدراً، يعمد الرئيس الجديد إلى مضاعفة التزامه الذي يزداد عمقاً مع كل أميركي إضافي يُقتل، حتى تصل الأمور إلى المنطقة الحرجة، وهناك تبدأ مطالبات الجماهير المغضبة على وضع حد للمذبحة.

كانت تلك هي الطريقة التي تم بها انتزاع أميركا من ورطتها في فيتنام لفترة تجاوزت العقد قبل نحو نصف قرن. في ذلك الوقت، قيلَ للأميركيين إن عليهم تطهير أرواح الجنود ورجال البحرية الذين فُقدوا في الصراع العالمي ضد الشيوعية، بأن لا يتركوا فيتنام الجنوبية في مواجهة أقدارها وحدها. ويُحتمَل كثيراً أن يحدث الأمر نفسه في أفغانستان، سوى أن التهديد الكوني أصبح يتمثل الآن في الإسلام الراديكالي هذه المرة.

لكن ثمة فروقات أخرى وأكثر أهمية مع ذلك. لقد بلغ عمر الحرب في أفغانستان ثماني سنوات، وهي ما زالت غير مقبولة جماهيرياً إلى حدٍّ كبير. كان الرئيسان جون كنيدي وليندون جونسون، اللذان تولّيا الرئاسة خلال فترة التحشيد الأميركي لحرب فيتنام الجنوبية، واقعَين تحت ضغط كبير من جهة نواب المعارضة، ووزارة الدفاع، والجمهور بشكل عام، كي يضعا حدّاً للتوسع الشيوعي عن طريق دعم النظام في سايغون. في مقابل ذلك، ثمة الآن شكوك متنامية من جهة اليمين واليسار على طرفَي القسمة السياسية، في أن نشر بضعة آلاف أخرى من القوات في أفغانستان سيفضي إلى حماية الولايات المتحدة من هجوم إرهابي آخر على نمط هجوم 11 أيلول/سبتمبر. كما يوجّه مؤيدو أوباما الليبراليون الدعوة إليه ليرقى إلى مستوى الوفاء بالتزامه أثناء حملته بالانسحاب من أفغانستان كليّةً، في حين يُنظَر إلى فشله في تحقيق ذلك على أنه كان سبباً في خفض عدد الشخصيات المهمة التي ربما كانت ستدعم بقوة خطته للعناية الصحية.

في حقيقة الأمر، ثمة القليل مما يميز أوباما عن سلفه، جورج بوش، عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي. لقد وقع التزام أوباما بإغلاق مركز الاعتقال في خليج غوانتانامو الكوبي في شرك التعقيدات القانونية، ولم يفعل الرئيس سوى القليل في شأن استعادة الحريات المدنية التي عمل «القانون القومي الأميركي» غير العادل على إخصائها وسحبها من دستور الولايات المتحدة. وفي ظل حكم أوباما، ما زالت مستمرةً تلك الممارسة التي يدعوها المدّعون العامّون في واشنطن «التحقيق المحسَّن»، وما يدعوها الآخرون كافةً «تعذيباً»، رغم الضرر الذي ألحقه مثل هذا السلوك بصورة أميركا في الخارج، ورغم غياب أي دليل يُعتَدّ به على أنه سلوك ضمن للأمة أن تكون في أمان. وعندما كان عضواً في الكونغرس، انضم السيد أوباما في السنة الماضية إلى النواب الديمقراطيين في دعم تمرير التعديلات التي أجريت على «قانون مراقبة الاستخبارات الخارجية»، والذي أضفى المشروعية على الممارسات غير القانونية التي كان السيد بوش قد أوصى بها للتجسس على المواطنين الأميركيين في الولايات المتحدة.

بعبارات أخرى، يبدو التزام حملة أوباما بـ«التغيير»، وكأنه قد وقف فجأة عند متراس الدولة السياسية-العسكرية الفرعية الهائلة التي نجمت مباشرة عقب أحداث أيلول/سبتمبر. ربما يدرك أوباما الآن، وقد أتيح له دخول المعتزلات الآمنة وغرف التقارير والإيجازات في واشنطن، أيَّ عالم خطر تواجهه الولايات المتحدة، ويبدو أنه قد منح استقلالاً كاملاً لأجهزة البلد الدفاعية والاستخباراتية، أو أنه بات يشعر بالقلق إزاء تعريض نفسه لهجمات يشنها عليه اليمين الرجعي في حال حاولَ المضي قدماً في الوفاء بالتزامات حملته الانتخابية.

بطبيعة الحال، يمكن أن يكون الأمر مزيجاً من الأمرين. كان كنيدي وجونسون تلقّيا تحذيرات من مستشاريهما العسكريين والمدنيين من أن عدم مواجهة فيتنام الشمالية، تلك الصنيعة الصينية-السوفييتية، ربما يدمر صدقية الولايات المتحدة في الحرب الباردة. ولأن المخاطر الجيو-سياسية والسياسية-المحلية التي كانت ستنجم عن عدم الرد كانت حقيقية بما يكفي في تلك الآونة، عمد الرجلان إلى سكب الرجال والأموال والمواد في ما تحول سريعاً إلى حفرة قاريّة بلا قاع. ولم يتكشف سوى بعد طويل وقت أن فيتنام الشمالية لم تكن صنيعة لأحد، وأن العلاقات بين موسكو وبكين كانت تتحلل، حتى في الوقت الذي كانت فيه مؤسسة واشنطن السياسية/العسكرية تطالب بشن حرب أوسع في الهند الصينية.

لقد دفعت الولايات المتحدة ثمناً باهظاًً لشراء صدقيتها، والذي كان أغلبه، كما كان شأنه دائماً، من دماء شبابها، ناهيك عن أولئك المدنيين الذين لم يكونوا محظوظين بما يكفي، فعَلِقوا بين واشنطن وبين طموحها الإمبريالي. ثم جرى التركيز على مسألة صدقية معاهدة عدم الانتشار النووي بشكل هائل في القضية التي حاكتها إدارة بوش لتبرير غزو العراق، دون استفزاز من طرف الأخير، حتى اتضح لاحقاً أن برنامج الأسلحة الذرية العراقي كان إغراقاً في الخيال في هذا القرن بقدر ما كانت فكرة التحالف الصيني-السوفييتي مدمرة في القرن الماضي. وكان قصف كوسوفو العام 1998 قد عُدَّ أمراً ضرورياً للحفاظ على صدقية «منظمة معاهدة أميركا الشمالية»، وهي تحالف بالغ الأهمية للأمن الغربي، تبقّى من حقبة الحرب الباردة، واستطاع تدبُّرَ أمر بقائه بعد انتهائها. ولن يعرف المرء متى يمكن أن تعيد معاهدة وارسو تفعيل نفسها. أليس كذلك؟

والآن، ها هو أوباما يستمع من دون شك إلى التحذيرات المريعة نفسها حول التهديدات التي يشكلها الإسلام الأصولي، على النحو الذي كان يسمعه أسلافه من مستشاريهم عن الشيوعية التي بلا إله (يبدو أن أعداء أميركا إما يمتلكون الكثير من الدين، أو قدراً مختزلاً منه). بل إنهم يقولون له إن الانسحاب من أفغانستان لن يفعل سوى تدمير وجود الناتو الضروري الذي تستحيل الأشياء من دونه في حقبة ما بعد الحرب الباردة، وهو تفسير لم يدعمه حتى ولو سبب بسيط، حتى إن الكونغرس الذي يمتلك حصته الخاصة من الإمبراطورية، لم يبحث أبداً عن سبب لمثل هذا التفسير.

مؤخراً، بينما كان الأميركيون يحيون الذكرى الثامنة لهجمات 11 أيلول/سبتمبر، بدا أفق إحراز نصر في أفغانستان قصيّاً وبعيد المنال كما كان شأنه دائماً. وفي وقت سابق من آب/أغسطس الفائت، كان مسؤول عسكري أميركي رفيع المستوى قد صرح لمراسل صحفي في سلسلة صحف ماك-كلاتشي، بأن وزارة الدفاع الأميركية البنتاغون كانت «تحاول أن تشتري الوقت» بوضعها دراستها السرية المذكورة، حتى تثبت أن أفغانستان ليست مستنقعاً آخر على غرار المستنقع الفيتنامي. ولم يكن ذلك اختياراً مناسباً تماماً للكلمات؛ ففي العام 1946، كان وزير دفاع الولايات المتحدة آنذاك، روبرت ماكنمارا، قد صرح بأن قرار إطلاق حملة قصف مطولة ضد كوريا الشمالية ربما «يشتري الوقت» لأميركا قبل أن «تتداعى» سايغون.

بعد مرور أكثر من عقد على مقولته تلك، وفي 30 نيسان/إبريل، داست دبابات الفيتناميين الشماليين بوابات القصر الرئاسي في سايغون.

حرب لا يقبلها الداخل الأميركي أفغانستان: العدو بلا دين أو شديد التديّن
 
01-Oct-2009
 
العدد 4