العدد 4 - من حولنا | ||||||||||||||
تعود جذور مصطلحَي «اليمين» و«اليسار» تاريخياً إلى السنوات 1789 – 1794 التي شهدتها فرنسا، والتي بدأت بتمرد مجلس الطبقات وعقده في ملعب التنس رغماً عن الإرادة الملكية، ثم انتقال الطبقة الثالثة إلى التحالف مع جماهير المدن في ثورة أدت إلى انتخابات عامة. وأعقب الانتخابات صراعٌ على مفهوم المواطنة، وارتباط حق الاقتراع بالمِلْكِيّة، وعلى وطنية النظام المَلَكي في تواطئه مع القوى «الأجنبية» ضد الثورة، وحول مفهوم الأمة، ومعنى سيادة الأمة، ثم الجمهورية؟ وانهارت الجمهورية تحت وطأة تدخُّل قوة أوروبا الرجعية، وسياسة التصفية التي اتبعها الجناح الراديكالي للثورة. خلال تلك النقاشات، استخدم معارضو هيمنة الطبقات القديمة، الأرستقراطية والكليروس، ولاحقاً معارضو الحكم الملكي نفسه، أفكاراً مستمدة من فلسفة وفكر التنوير. من هنا، ليست العلاقة بين الثورة وفكر التنوير أسطورة أو خرافة. فبعض من يُعَدُّون من مفكري التنوير الأساسيين جاءوا من الطبقات الحاكمة، وإن كان فكرهم بشكل عام توجّهَ نحو إعمال العقل في الشؤون الإنسانية، ونحو نقد كل ما لا ينسجم مع العقل، حتى لو كان سلطة سياسية أو كنسية. لا شك أن زوج المصطلحات الذي حقق أعظم انتشار من تلك المرحلة هو «اليسار واليمين». والكلمتان لا تعبّران إطلاقاً عن مضامينهما كمصطلحَين، كما تعبّر كلمات مثل: ديمقراطي وديكتاتوري، أو ملكي وجمهوري. فقد كانت باريس ذات الثمانية وأربعين حياً بلجانها ونواديها السياسية، معقل اليعاقبة، وسُمُّوا غالباً: «الجبل». وجاء معظم زعامة أتباع القيادي الشعبي بريسو من إقليم «الجيروندا» في الجنوب. لذا أُطلق اسم «الجيروندا» على جميع من دان لبريسو بالولاء السياسي. أما «السهل» فقد كان خليطاً جغرافياً واجتماعياً شمل كل من لم ينتمِ لأحد التيارين. فاليمين واليسار كانا في حينه تعبيراً عن تقسيمات داخل معسكر الثورة. وهذا أمر مهم للسياق التاريخي. فهنالك قوى لم يَسْرِ عليها التقسيم، فأُتبِعَت لمرحلة ما قبل تقسيمات اليمين واليسار. وتعود مفاهيم «اليسار» و«الوسط» و«اليمين» في السياسة المعاصرة، إلى مواقع جلوس اليعاقبة والسهل والجيرونديين في المجلس. فبعد انتخابات أيلول/سبتمبر 1792، جلس اليعاقبة في الجناح الواقع على يسار قاعة المجلس التشريعي، والجيرونديون في مقاعد على يمين المجلس. وما بينهما السهل أو الوسط. وكان محور الخلاف بين الطرفين المتنافسين هو استراتيجيات حماية الثورة من خطر معارضيها وأعدائها الداخليين والخارجيين. الصراع دفع اليعاقبة إلى المطالبة بإعدام الملك على خيانته الوطنية، وإلى المطالبة برفع مبدأ المواطنة أساساً للأمة وللحقوق، بحيث لا يرتهن حق الاقتراع بالضريبة المدفوعة. أي أنهم بمعانٍ كثيرة تحالفوا مع الفقراء، بخاصة فقراء مدينة باريس. لكنهم تميزوا أيضاً بأمرين آخرين، هما في حالة روبسبير، تحويل العقل إلى مبدأ يكاد يكون دينياً. والأمر الثاني هو تقمص الإرادة العامة، وجعلها حتى فوق الإرادة الحقيقية للناس. من هنا جاء الشعور القوي بالحق في قمع معارضي الثورة ومعارضي إرادتهم كممثلين لإرادة الشعب، وشرعنة استخدام «الإرهاب» ضد أعداء الثورة، ثم ضد بعضهم بعضاً في عملية لم تنتهِ إلا بنهايتهم وإعادة ترميم الملكية. وهي المرة الأولى في التاريخ التي يستخدم فيها أحد مصطلح «الإرهاب» صراحةً في وصف سياسته ضد خصومه، خصوم الثورة. ولم يُستخدم المصطلح كذَمٍّ لهذه السياسة طبعاً، بل كوصف موضوعي لسياسة تخويف أعداء الثورة أو ردعهم أو إرهابهم. تطوّرَ استخدام المصطلحين لاحقاً، واتخذت كلمتا «يسار» و«يمين» حياة خارج السياق التاريخي لمنشئهما. فما هو الجوهري لتحديد مصطلح سياسي قيمي يعبِّر بذاته، لا عن ظاهرة ينبغي تحديدها لتحليلها علمياً، بل عن قيم وبرامج وأفكار فاعلة في السياسة والمجتمع؟ طبعاً ليس اليساري، أو ممثل اليسار، هو من يجلس على اليسار في البرلمان. وليس اليساري من يستخدم المقصلة لتصفية معارضيه، حتى داخل حزبه وتياره، باسم إرادة الشعب التي لا يعيها الشعب نفسه في بعض الحالات. فقد تركت عقلية احتكار الحقيقة وتجسيد إرادة الجماهير وتقمص العقل وتمثيل مصلحة الشعب أثراً في تعريف قوى سياسة يسارية لنفسها بشكل مضمر عبر سلوكها، وبشكل سافر عبر خطابها الأيديولوجي. وتشيأت هذه السياسات وتكرست حتى غدت إرادة الجماهير المفترضة بديلاً للإرادة الإلهية، وكذلك أصبح احتكار العقل وما سمي «الاشتراكية العلمية» أيديولوجيةً غير عقلانية وعقيدة تتناقض مع تعريفه. بدأت فكرة القائد الملهم في اليسار، وليس عند اليمين. هذه ليس مفارقة تاريخية مثل الجلوس على يسار المجلس، بل هي سياسات وقيم طبعت سلوك وفكر تيارات واسعة من اليسار، وشكلت مخزوناً شعورياً عميقاً لا يمكن مواجهته إلا بجهود مخلصة ومثابرة. اليسار يجب أن يوّجه نقداً يمكّنه من إعادة تعريف ذاته. فإذا كان جوهر اليسار مثلاً هو رفع قيمة المساواة بين البشر فوق غيرها، وإدراك أن قيمة المساواة دون حرية تنقلب إلى عكسها، فهذا يعني أن اليسار تيار تحرري يعارض أية تراتبية غير مبررة بمبادئ الحرية والمساواة، أو تدوس على المواطنة، كجمع حقوقي بين المساواة والحرية، وعلى العدالة الاجتماعية والديمقراطية. ويعدّ اليسارُ الدولَ والأحزاب التي مارست الحفاظ على السلطة والحزب كوكلاء حقيقة مطلقة ومنتظمة أيديولوجياً كالدين، دولاً وأحزاباً يمينية ليست من اليسار في شيء، وذلك بصرف النظر عن لون العلَم ونوع المفردات التي يعجّ بها الخطاب. |
|
|||||||||||||