العدد 4 - من حولنا
 

بعد مضي تسع سنوات على هبة أكتوبر، ومقتل 13 شاباً عربياً برصاص قوات الشرطة الإسرائيلية، وبعد أربع سنوات على آخر إضراب عام في ذكرى المناسبة، أعلنت لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية، إضراباً عاماً وشاملاً في الذكرى السنوية التاسعة ليوم القدس، إضافة إلى تنظيم المسيرة المركزية القطرية الموحّدة في قرية عرابة الجليلية.

سكرتارية اللجنة قالت إن إعلان الإضراب العام، لا يُعدّ تصعيداً، بل ردّاً وتحدّياً طبيعياً وضرورياً للتصعيد الإسرائيلي تجاه الجماهير العربية. ومن أبرز القضايا والدوافع والخلفيات التي أشارت إليها السكرتارية: إغلاق ملفات المتهمين بمقتل 13 من العرب خلال هبة القدس والأقصى، التصعيد في سياسة هدم البيوت العربية، تنامي مظاهر التحريض وتجلَّيات العنصرية والفاشية في المجتمع الإسرائيلي، ومحاولة عَبْرَنَة أسماء المدن والقرى العربية بهدف تهويد الجغرافيا ومُصادرة التاريخ، إلى جانب صَهْيَنَة المنهاج التدريسي، وفرض نشيد هتكفا الصهيوني على المدارس العربية، وحملة الاعتقالات الترهيبية ضد أبناء الجماهير العربية، وأزمة السلطات المحلية العربية بعد بلوغها حافة الانهيار جَرَّاء سياسة التمييز الرسمية، إضافةً إلى قضية مواصلة وتوسيع الاستيطان الإسرائيلي الاحتلالي في الضفة الغربية، وتسريع عملية تهويد القدس والسعي المنهجي لتغييب الوجود العربي الفلسطيني فيها.

مرور تسعة أعوام على هبة أكتوبر، وستة أعوام على إعلان توصيات لجنة أور (اللجنة الحكومية للتحقيق في الهبة)، وخمسة أعوام على إصدار توصيات لجنة لبيد (اللجنة الوزارية المكلفة متابعة تطبيق توصيات لجنة أور).. كل ذلك يدفع لمحاولة فهم السياسات المنتهجة تجاه الأقلية العربية في الدولة العبرية، ورصد ما نُفذ من تلك التوصيات، وكيفية تطبيقها.

فبعد الهبة، عينت حكومة باراك لجنة أور بناء على مطلب الجماهير العربية عشية الانتخابات، للتحقيق في ما جرى. من الاعتقادات الرائجة أن الحكومات الإسرائيلية تجاهلت تماماً مستخلصات اللجنة، أو على الأقل أهملهتا. لكن هذا حكم غير دقيق، إذ تعاملت الدولة بجدية وبعمق مع جانب محدد من مستخلصات اللجنة، وهو كيفية احتواء الفلسطينيين في إسرائيل والتعامل مع «مصادر التطرف» السياسي لديهم.

تطرقت اللجنة إلى التحولات في الوعي السياسي لدى المجتمع العربي، ومسببات ذلك. وخلص التقرير إلى «أن المجتمع العربي يمر في عملية تطرف سياسي، نتيجة تنامي قوة التيار القومي والتيار الإسلامي المتطرف (الشق الشمالي)». كما تطرق إلى تزايد عدد الجمعيات والمؤسسات الأهلية، وتنامي تأثيرها في السياسة العربية. وما تخشاه الدولة، وفقاً للتقرير، أن تتحول هذه المؤسسات إلى قواعد وطنية قومية تعمل ضد الدولة. وفي تحليله للمواقف والتصرفات السياسية لدى فئات المجتمع العربي، يخلص التقرير إلى أن الفئة الأكثر تطرفاً هي فئة الشبان، وبخاصة طلبة الجامعات.

تلك الفئات والحركات السياسية التي رأى التقرير أنها أبرز عوامل «التطرف»، سوف تحظى بـ«اهتمام» المؤسسات الأمنية، وستكون عنواناً رئيسياً لسياسات الاحتواء والقمع من جانب الدولة. إذ استنتجت الدولة من التقريرَين أنها تستطيع الاستمرار في منهجية التمييز والغبن تجاه الأقلية العربية، دون المخاطرة بتدهور الأوضاع إلى مصادمات بين الدولة والأقلية، بشرط أن يجري التعامل مع المسببات والدوافع السياسية التي أدت إلى تلك المواجهات، وفقاً لتحليل الدولة.

ملاحقة التجمع الوطني

منذ سنوات، تحاول الدولة منع مشاركة حزب التجمع الوطني الديمقراطي أو زعيمه عزمي بشارة في انتخابات الكنيست. وقد تعرّض التجمع وقياداته إلى حملة تحريض كبيرة في السنوات التي أعقبت انتفاضة الأقصى في تشرين الأول/أكتوبر 2000 بعامة، وبعد الحرب على لبنان على وجه الخصوص، ثم في أثناء العدوان على غزة نهاية العام 2008، بسبب الموقف الواضح الرافض للحرب، وبسبب جهود حثيثة يقوم بها لطرح مسألة جوهر الدولة وطبيعتها للنقاش الجدي مع النخب اليهودية.

وبعد الحرب الأخيرة على لبنان، اقتنعت الدولة أنه حان الأوان للانتقام من التجمع ومؤسسه، وأن الفرصة متاحة لفبركة اتهامات أمنية واستخدامها ضد بشارة، بعد أن فشلت المحاولات السياسية للنيل منه ومن حزبه. على سبيل المثال، عقدت لجنتا «رقابة الدولة» والكنيست بتاريخ في 17 أيلول/سبتمبر 2009 جلسة خاصة مشتركة لبحث نشاط التجمع «المعادي للدولة اليهودية»، وبادعاء قيامه بـ«تنظيم وتمويل أنشطة ومؤتمرات معادية».

أثناء انعقاد الجلسة قال رئيس لجنة «رقابة الدولة» من حزب كاديما، يوئيل حسون، «إن نشاط التجمع له صلة مع جهات إرهابية، وعلينا القيام بإجراءات للحد من هذا النشاط، لسنا ضد أن يكون للعرب تمثيل سياسي، ولكن ليس من النوع الذي يجسده التجمع». وقال عضو الكنيست اليميني المتطرف آريه إلداد، إنه لا مكان في دولة إسرائيل لقوميين عرب، ومن لا يرغب العيش في دولة يهودية فعليه مغادرتها. وأضاف أن لكل منظمة مسلحة ذراع سياسية، والتجمع هو الذراع السياسية لحركات المقاومة العربية التي أسماها «منظمات إرهابية».

إضافة إلى الملاحقة المستمرة لحزب التجمع، عملت الدولة أيضاً على ملاحقة التيار الإسلامي (الشق الشمالي). ففي العام 2003، وبعد حملة تحريض منهجية في الصحف الإسرائيلية، قامت الشرطة الاسرائيلية ووحدات من حرس الحدود بحملة عسكرية وبمشاركة أعداد كبيرة من أفراد الشرطة، واعتقلت 14 من قياديّي الحركة الإسلامية، اتُّهموا بمساندة «حماس» وتجنيد الأموال لها، ودعم الإرهاب.

الخدمة المدنية

من أبرز توصيات تقرير لجنة أور، وجوب معالجة الدولة حالة الغربة والعداء بين الشرطة والمواطنين العرب. الدولة أخذت كما يبدو هذه التوصية على محمل الجد، وقامت لجنة لبيد بترجمة ذلك إلى برنامج عمل فعلي، استناداً لاقتراح متكامل بإنشاء هيئة حكومية تعمل على تجنيد الشبان العرب في الخدمة المدنية. يهدف البرنامج إلى احتواء الشبان العرب، بوصفهم من وجهة نظر الدولة الأكثر تطرفاً أو قابلية للتطرف، ومن ثم جسر الهوة بين الشبان العرب والدولة، وصقل وعي جديد يطمس الهوية القومية للشبان العرب، ويمهد الطريق لتجنيدهم في الجيش الإسرائيلي. وقد أقامت الدولة جهازاً خاصاً لهذه المهمة.

بعد ثلاثة أعوام، لم يكن تطبيق الخطة بـ«المستوى المطلوب» وفقاً للمفهوم الإسرائيلي، إذ لم يتخطَّ عدد الشبان العرب الذين انضموا إلى البرنامج 1500 شاب. وكانت لجنة المتابعة العليا للشؤون العربية في إسرائيل شكلت العام 2006 لجنة خاصة لمناهضة «الخدمة المدنية»، تعمل بين فئات الشبان وفي المدراس العربية لتوعية الشبان وتعريفهم بمخاطر هذا البرنامج. وقد تبين في استطلاع للرأي بادرت إليه جمعية «بلدنا» (جمعية عربية مقرها في حيفا)، نُشر في 15 أيلول/سبتمبر 2009، أن أكثر من ثلثي الشبان العرب يعارضون ما يسمى «الخدمة المدنية الإسرائيلية». وكشف الاستطلاع أن 56 في المئة من المستطلَعين يرون أن الخدمة تشوه انتماءهم القومي. وقال أكثر من ثلثي الشبان أنهم لا يعتقدون أن الخدمة تحقق لهم المساواة، ورفض 77.8 في المئة الخدمة العسكرية، وأكد 67 في المئة أن هناك تناقضاً بين أهداف الخدمة وبين هويتهم العربية ومركباتها، كما استعمل أغلبيتهم المركب الفلسطيني لتعريف أنفسهم.

بعد تسع سنوات على هبة أكتوبر، فإن محاولات الدولة النيل من الأحزاب القومية العربية والحركة الإسلامية (الشق الشمالي)، وسياسات صهر الشبان العرب في الفضاء الصهيوني، فشلت، أو نجحت بشكل محدود جداً. ولعل التوصية الأبرز من لجنتَي أور ولبيد التي تسعى الحكومة لتطبيقها بجدية، هي العمل على رفع جهوزية الشرطة الإسرائيلية، وتهيئة أفرادها للتعامل مع أي «عملية إخلال بالنظام والأمن العام يقوم بها الفلسطينيون في إسرائيل».

تنطلق لجنة أور من أن التظاهرات العربية للتعبير عن الاحتجاج والتضامن هي «أعمال شغب» لا أكثر ولا أقل، وتسهب في شرح خطورتها وعنفها، دون أن ترى في الاحتجاج حالةَ تعبير عن قلق حقيقي لدى السكان العرب إزاء ما يجري في المناطق العربية المحتلة، وموقفاً سياسياً أبدوه تجاه الأحداث، وتجاه تعامل الدولة معهم. وعلى ما يبدو أن نظرة المؤسسة الحاكمة إلى المواطنين العرب لم تتغير، وأن ملاحقه الأحزاب والحركات التي تراها متطرفة لن تتوقف. على العكس تتبنى الدولة نهجاً يقوم على أن ما لا يُحَلّ بالقوة يُحَلّ بقوة أكبر، وبدل المحاولة للتوصل إلى تسوية تاريخية مع الأقلية الفلسطينية، تُعِدّ قواتها لخوض أيّ مواجهة مستقبلية تفترض حدوثها.

فلسطينيو العام 1948 تسع سنوات على هبة أكتوبر: من الاحتواء إلى العداء
 
01-Oct-2009
 
العدد 4