العدد 4 - من حولنا
 

في أثناء السجال الراهن، وسط تعقيدات تشكيل حكومة يرأسها زعيم الأكثرية النيابية سعد الحريري، تبرز نبرة تهدئة يتصف بها موقف الزعيم الدرزي وليد جنبلاط تجاه قوى المعارضة، المتهمة بطرح مطالب تعجيزية واشتراطات تعيق الوصول إلى ائتلاف حكومي جامع، انقضت نحو ثلاثة شهور على التكليف الأول للحريري بتشكيله.

جنبلاط، بعد التكليف الثاني في 12 أيلول/سبتمبر 2009، يلحّ على الحفاظ على صيغة 15 وزيراً للأكثرية، 10 للمعارضة، و5 وزراء لرئيس الجمهورية، بوصفها المناسِبة لحكومة وحدة وطنية. وقد شدّد على أهمية هذه المسألة، لمواجهة «التهديدات المستقبلية المتمثلة في عدوان إسرائيلي جديد على لبنان»، بحسب تعبيره.

المتابع لأجواء الجدل اللبناني المستمر منذ نحو ثلاثة شهور، لم تتمكن أقطاب السياسة خلالها من التوصل إلى حل العقد المستعصية أمام تشكيلة الحكومة، لا يقع على أي تصعيد من أي لون من جنبلاط تجاه غريمه في قوى المعارضة، ميشيل عون، الزعيم المسيحي رئيس التيار الوطني الحر (21 نائباً)، والمتهم بأنه الذي يضع العصي في الدواليب، من قبيل إلحاحه أن تكون لتياره وزارة الداخلية التي تصرّ الأكثرية على أن تكون من حصة رئيس الجمهورية. ومنها تشديد عون على توزير صهره جبران باسيل، وزير الاتصالات في الحكومة القائمة، الأمر الذي يجد ممانعة واسعة من قوى الأكثرية، بسبب توافق سابق على عدم توزير مرشحين لم يفوزوا بمقاعد نيابية في الانتخابات، وتنطبق الحالة على باسيل الذي أخفق في موسمَي 2009 و2005.

يميل جنبلاط إلى الصمت في هذا الشأن، وكأنه يحافظ على مسافة واضحة بينه وبين حلفائه في قوى 14 آذار، التي تتشكل الغالبية النيابية منها، ولفريق جنبلاط ضمنها 11 نائباً، وهو التحالف الذي بادر الزعيم الدرزي إلى إعادة موضعة نفسه فيه، في إعلان انقلابي، بادر إليه أمام اجتماع استثنائي لقيادات حزبه التقدمي الاشتراكي، في مطلع آب/أغسطس الماضي، جهر خلاله بما يشبه «الانسحاب الموضعي»، أو «إعادة انتشار متأرجحة»، داخل «14 آذار».

هذا التكتل يعدّ جنبلاط من أبرز صناعه، وممن صاغوا مشروعه وشعاراته المتصلة بالاستقلال والسيادة، وتمكين الدولة اللبنانية وتقوية مؤسساتها، وعدّها صاحبة القرار الأول والأخير، مع النزوع إلى الضغط على دمشق، لكفّ يدها نهائياً عن التدخل في الشؤون اللبنانية، معطوفاً ذلك كله، وغيره، إلى إقامة تحالفات متينة وعلاقات ومشاورات متواصلة مع السعودية ومصر، ومع الولايات المتحدة وفرنسا والغرب بعامة.

وكان جنبلاط غالى كثيراً في هذا كله، إلى درجة أنه توهّم أن الولايات المتحدة في زمن جورج بوش يمكن أن تقوم في دمشق بالذي قامت به في بغداد، حين قضت على نظام صدام حسين، وقد أثنى جنبلاط على الرئيس الأميركي السابق في زيارة له إلى واشنطن في آذار/مارس 2006، وتمنى عليه، وأمام جمع من صقور الصهاينة الأميركيين من أمثال مارتن أنديك، أن تكون حربه في العراق «مدخلاًً لإسقاط الأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي».

تغيرت واشنطن نفسها، وانفتحت، كثيراً أو قليلاً، على سورية، ودخل البيت الأبيض رجلٌ اسمه باراك أوباما، نبرته مختلفة حيال العالم، وحيال طهران ودمشق مثلاً. ولبنانياً، دللت واقعة 7 أيار/ مايو 2008 على قدرة حزب الله على حسم أي خلاف في الشارع، إذا ما أراد، بالقوة العسكرية، فقد استباح مسلحون منه مناطق سنيّة ودرزيّة، رداً على قرارين اتخذتهما حكومة فؤاد السنيورة، «غير الشرعية» في حينه، بحسب الحزب والمعارضة، بصدد شبكة الاتصالات للحزب وإقالة ضابط أمن في المطار.

تلك الحادثة، أقنعت جنبلاط قبيل اتفاق الدوحة، بأن تحالفاته الداخلية والخارجية قد لا تحميه، إذا ما تكررت واستجدّت وقائع اشتباك سياسي وميداني أخرى. وكان قد استبق خروجه من صفوف «اليمين المنحاز»، في انعطافته الجديدة، بتعمُّد تسريب محضر جلسة سرية مع مشايخ الدروز للصحافة، هاجم فيها «المارونية السياسية الكارهة للعروبة»، بل ووصف الموارنة في حديث جانبي بأنهم «جنس عاطل»، وشدّد على إقامة علاقات مميزة بين لبنان وسورية، وهو ما أكده لاحقاً في غير مناسبة، ومنها واقعة إعلان انقلابه الانتقادي العاصف على «14 آذار»، حين قال إن الانفتاح على سورية ضروري لمواجهة الاحتمالات.

دمشق استقبلت الانعطافة الجنبلاطية تجاهها، بإرسال «رسالة محبة وتقدير وترحيب» إليه، نقلها غريمه الدرزي الوزير السابق وئام وهاب.

في تلك الجلسة السرية، ألحّ جنبلاط على تحالف مطلوب بين الدروز والشيعة، وقال إن الأخيرين ثلث لبنان، وتعدادهم مليون ومائتا ألف، ومنتشرون من الجنوب حتى خط الشام، فيما الدروز في الوسط، ولن يعود المسيحيون إلى الجبل، لأنهم ينقرضون، فيما البحر السني كبير. ورأى وجوب إغلاق «ملف 7 أيار» التي قال إن السنّة اخترعوا منها كربلاء جديدة. وكان قد أيقن في ذلك اليوم الذي عدّه حسن نصر الله «يوماً مجيداً من أيام المقاومة»، أنه لا يستطيع تحمُّل أعباء مواجهة عسكرية مع حزب الله.

جنبلاط أعقب مفاجأته بالتأكيد على عدم خروجه من «14 آذار»، وذلك بعد تطويق وزير الإعلام السعودي عبد العزيز خوجة لها، وإسراعه إلى حماية الجسور بين جنبلاط وبين الحريري من أي تصدع. ويمكن الزعم أن تأرجح الرجل، الحاد في هذه المرة، يعود أساساً إلى إحساسه المقيم بضرورة حماية الطائفة الدرزية التي يتزعمها في وجه المتغيرات في لبنان والشرق الأوسط، ولعله بات يرى أن العلاقة مع سورية هي الأساس لتوفير هذه الحماية. وفي إشارته أمام الجمعية الاستثنائية لحزبه التقدمي الاشتراكي، إلى أن الجيش السوري انسحب من لبنان، وفي دعوته إلى علاقات مميزة مع دمشق «وفق اتفاق الطائف»، ما يؤطر رؤيته تلك، ويغلّفها بسياق وطني.

جنبلاط شدد كثيراً على أن مشروع «14 آذار» هو «الدولة الضامنة للجميع» في لبنان، وهو نفسه الذي لفت في بيانه «المنعطف»، إلى أن المذهبية والطائفية وكره الآخر من نتاج «14 آذار»، غير أنه، إذ يتمكن منه خوفُه من «توسع شيعي» على الدروز، فإن ابتعاده الراهن عن الزعماء الموارنة في التكتل المذكور، وتحديداً أمين الجميل المقترن باتفاق 17 أيار مع إسرائيل، وسمير جعجع المرتبط اسمه بالحرب الأهلية وحرب الجبل ضد الدروز في أثنائها، قد تصعب موضعتُه ضمن انعطاف متجدّد إلى العروبة واليسار والبعد القومي، فلم يطلب منه أحد من زعامات «التكتل الاستقلالي»، على ما ظل يصفه، أن يتخفف من ذلك كله، ولا أن يتوهم أن علاقة موسمية مع صقور في واشنطن تؤهله ليكون رأس حربة في جهود غير مؤكدة لإسقاط نظام بشار الأسد.

تصريحات جنبلاط وتحركاته في أثناء مداولات الحكومة المعقّدة، وفي انتظار تفاهمات سعودية سورية مدعومة أميركياً وفرنسياً تيسّر ولادة هذه الحكومة، يتملاّها المرء، ويجدها مرنة، حذرة، هادئة، داعمة للرئيس المكلف سعد الحريري، وبراغماتية. وإذا ما تمّ تجاوُز النعتُ الشائع للرجل بأنه «متقلّب»، فإنه ربما تكون في باله زيارة إلى دمشق التي جهر أثناء القطيعة معها بمسؤوليتها المباشرة عن اغتيال والده كمال جنبلاط في آذار/مارس 1977، والتي وصفها في إطار انعطافة التهدئة الراهنة مع الجميع: «شقيقة وجارة». ومن جديد محطات هذه الانعطافة أن صاحبها يقول إن في إمكان لبنان اللجوء إلى إيران، للحصول على أسلحة يحتاجها لحماية نفسه من أعدائه. فهل يفكّر جنبلاط بزيارة قريبة إلى طهران أيضاً؟

لبنان: البحث عن جنبلاط في جدل الحكومة
 
01-Oct-2009
 
العدد 4