العدد 4 - اقتصادي
 

هنالك نظريتان معنيتان بأدبيات عمل السياسة النقدية، الأولى تعارض بشدة تدخُّل الدولة في تلك السياسة، وتدعو إلى حرية العمل المصرفي وما تتبعها من إجراءات، وهو ما يُعرف بـ«عمليات السوق المفتوحة». وقد تبنّى البنك المركزي هذه النظرية منذ نهاية العام 1993، عندما أخذ يتبع الأسلوب غير المباشر في إدارة السياسة النقدية.

أما الثانية، فترى من الأهمية بمكان أن تلعب الدولة دوراً رئيساً في تنفيذ سياسة نقدية متشددة، وأن تتحكم بأدوات النقد، بحيث يتجاوز دورها الرقابة من بعيد وسن التعليمات التي تحكم العملية النقدية.

النظرية الثانية التي عُرفت باسم «الكنزية» فرعٌ مهم من فروع الفكر الاقتصادي، يعتمد بدرجة أو بأخرى على أفكار الاقتصادي البريطاني الشهير ميرنارد كينز، التي تتسم بشكل عام باعتقادها بأهمية تدخل الحكومة، وبالشكوك حيال فعالية قوى السوق.

لكن الذين يتبنون النظريتين، وإن اختلفوا في المفاهيم كافة، فقد أجمعوا على أن بإمكان البنك المركزي التدخل في حالات التصحيح الاقتصادي كما يرى نائب رئيس الوزراء الأسبق جواد العناني.

بيد أن نائب رئيس الوزراء وزير المالية الأسبق زياد فريز يخالف العناني، ويعتقد أن معالجة حالة الانكماش التي تشهدها البلاد بمزيد من تفعيل سياسة التحرر من جانب «المركزي»، تعني مزيداً من التضخم وعدم السيطرة على السيولة المطروحة في الأسواق.

فريز يلاحظ وجود فاعلية لأدوات البنك في ضبط السيولة ومنحها في الوقت نفسه، يقول: «الدور المهم الذي يقوم به المركزي لا يلحظه الناس العاديون، على العكس، فإن المركزي يتابع التطورات الاقتصادية عالمياً ومحلياً بشكل حثيث»، ويضيف أن السياسة النقدية لا يمكن أن تشوبها تناقضات في الأهداف، وأن على «المركزي» المواءمة بين تلك التناقضات، أي زيادة في السيولة يتبعها ارتفاع في التضخم، أو نقص في السيولة يكون نتيجته انكماش.

في قراءة تحليلية لعدد من التقارير التي أصدرها البنك المركزي منذ مباشرته أعماله في اليوم الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 1964، ليخلف مجلس النقد الأردني الذي كان أُسس العام 1950، تَبيّنَ لـ«ے» بأن السياسة النقدية في البلاد شهدت تحولات بين النظريتين على مدار الأعوام الخمسة والأربعين الماضية.

السياسة النقدية للبنك اتخذت اتجاهات متباينة بين التشدد والتساهل في ضوء التطورات الاقتصادية المحلية، وتطورات أسعار الفائدة في الأسواق المالية الدولية. فقد تميزت فترة التسعينيات بشكل عام بسياسة نقدية متشددة، لتخفيض معدلات التضخم كما حدث في أوائل التسعينيات، أو لتعزيز استقرار سعر الصرف كما حدث في أواسط التسعينيات وأواخرها، عندما ارتفع الطلب على العملات الأجنبية بشكل حاد ومفاجئ. وقد ترتب على ذلك في حينه ارتفاع أسعار الفائدة على أدوات السياسة النقدية المختلفة.

منذ أواسط العام 1999، تميزت السياسة النقدية باليسر، وقد أمكن تخفيض سعر الفائدة على أدوات السياسة النقدية إلى أدنى مستوى لها منذ اتباع الأسلوب الجديد في إدارة السياسة النقدية. غير أن البنك اتجه منذ أواسط العام 2004 نحو بعض التشدد عبر رفع أسعار الفائدة، تجنباً لضغوط تضخمية محتملة جرّاء تزايد الطلب المحلي.

«البنوك المركزية استطاعت أن تؤدي دوراً أساسياً في عمليات التنمية الاقتصادية في الثمانينيات، وموّلت ديون الدولة ومشاريع اقتصادية، فكيف تتخلى عن دورها حالياً في معالجة الاختلالات الاقتصادية والمساهمة في الإصلاحات؟»، يتساءل العناني.

ويتفق محافظ البنك المركزي الأسبق محمد سعيد النابلسي، مع ما ذهب إليه العناني، لكنه يرى أن توجه السياسة النقدية في البلاد يجب أن يكون نحو إعادة النظر في ربط الدينار بالدولار الذي تم أواخر العام 1994، ويقول إن «تراجع القدرة الشرائية للدينار المرتبط بالدولار، وعدم اتخاذ خطوات وقائية وعلاجية رسمية، يفرض إعادة النظر في السياسة النقدية، ومن ضمن ذلك إعادة تقييم الدينار مقابل الدولار».

النابلسي، الذي أدار البنك المركزي الأردني 19 عاماً، يعتقد أن الاستمرار بربط الدينار بالدولار سيدفع بالاقتصاد الوطني إلى أقصى الهاوية.

يدعو العناني إلى أن تضطلع السياسة النقدية، التي تعرضت لأكثر من تحول على مدار العقود الأربعة الأخيرة، بدور أوسع في التحكم بالظواهر الاقتصادية، مثل التضخم وحالات الانكماش التي يعيشها الاقتصاد على إثر الأزمة المالية العالمية التي بدأت في الولايات المتحدة الأميركية في 15 أيلول/سبتمبر 2009.

يشرح النابلسي دور البنوك المركزية بالقول: «ضبط الاستقرار النقدي من جانب البنوك المركزية له أدوات عدة، لكن الأساس في هذه السياسة هو محاولة مكافحة الظواهر التضخمية في الاقتصاد وحتى الانكماشية منها».

ويضيف أن تطبيق مثل هذه السياسات سيساعد على إبقاء قيمة النقد المحلي مستقرة إلى حد ما، وتخضع إلى نجاح نسبي، لأن للبنوك المركزية دوراً إضافياً هو مراقبة البنوك التجارية وسير أعمالها وترخيصها.

ويتابع أن معظم البنوك المركزية الكبرى في أوروبا والولايات المتحدة تخلّت عن مهمة مراقبة البنوك، وجرى إيكال ذلك إلى هيئات ومؤسسات مستقلة، مشيراً إلى أن البنك المركزي الأردني «يقوم بهذين الدورين معاً».

المحامي المتخصص في شؤون موازنات البنوك غسان معمر يعتقد أن اتباع البنك المركزي منذ نهاية العام 1993، دوراً غير مباشر في إدارة السياسة النقدية عبر عمليات السوق المفتوحة، أمر لا يجدي في ظل الظروف الاقتصادية الحالية. هذه العمليات تتضمن إصدار شهادات إيداع لامتصاص السيولة الزائدة، وبالتالي منع التأثير في مستوى الأسعار بشكل عام من جهة، وفي سعر الصرف من جهة أخرى.

رغم أن معمر يرى أن هذا الأسلوب هو الأكثر شيوعاً في إدارة السياسة النقدية لدى البنوك المركزية في الدول المتقدمة، إلا أنه يعتقد أن على «المركزي» العودة لأسلوب كان اتبعه قبل العام 1993، عندما كان يطبق إجراءات إدارية للتأثير في هيكل الائتمان المصرفي وتكلفته، عبر تحديد أسعار الفائدة على القروض والودائع، وإلزام البنوك بتوجيه جزء من محفظتها المالية نحو استثمارات بعينها.

هذا ما يدعوه العناني: «الحالة الملحّة» التي تستوجب إصلاحاً اقتصادياً مع تأثر البلاد بتداعيات الأزمة المالية العالمية. يقول: «نشهد انكماشاً في الاقتصاد بسبب تراجع الاستثمارات والصادرات وإيرادات الدولة، وعلى البنك المركزي أن يلعب دوراً مختلفاً في هذه المرحلة».

من جهته، يؤكد البنك المركزي أن هذه الأدوات في ذلك الوقت لم تكن بالفعالية المطلوبة للتأثير في حجم السيولة في الاقتصاد الوطني، فضلاً عن أنها أدت إلى تشوهات سعرية وهيكلية في القطاع المصرفي، وبالتالي إلى تقليل كفاءة تخصيص الموارد في الاقتصاد الوطني، بحسب تقرير أصدره البنك يبرر فيه هذا التحول.

بيد أن العناني يرى ضرورةً في تبنّي البنك لسياسات تصحيح ملحّة، مثل معالجة شحّ السيولة في الأسواق، وحثّ البنوك بشكل جدّي لـ«الإفراج عن الاحتياطات الاختيارية وتوظيفها في منح التسهيلات للأفراد»، بحسب تعبيره.

البيانات الصادرة عن البنك المركزي تفيد بأن رصيد التسهيلات الائتمانية المقدمة من البنوك للأفراد، سجّل انخفاضاً نسبته 4.9 في المئة، أو ما قيمته 194.2 مليون دينار، للشهور السبعة الأولى من العام الجاري. كما سجل رصيد التسهيلات المقدمة لقطاع الصناعة انخفاضاً نسبته 5.5 في المئة. وتقدَّر قيمة الانخفاض في التسهيلات المقدمة لقطاع الصناعة بـ 87.9 مليون دينار.

وتُظهر البيانات أن الاحتياطيات الفائضة للبنوك لدى البنك المركزي بلغت حتى نهاية آب/ أغسطس 2009 نحو 3.73 بليون دينار، بما في ذلك الأموال المودعة لليلة واحدة في نافذة الإيداع. فيما تبلغ الاحتياطيات الإلزامية 1.03 بليون دينار.

تلك التسهيلات يراها فريز، خارج متناول البنك المركزي، ويؤكد أن «المركزي» لا يستطيع الضغط على البنوك لمنح مزيد من التسهيلات، وإن فعل فإنه سيتحمل مسؤولية عدم سداد المستفيدين لقروضهم. ويرى أن حجم التسهيلات الممنوحة من البنوك توازي تلك الضمانات التي تحتفظ بها تلك البنوك، وهو أمر طبيعي في ظل أزمة مالية عالمية.

لكن النابلسي ذهب إلى أبعد من حالة الانكماش والمؤشرات الاقتصادية، ليؤكد أن ربط الدينار بالدولار أصبح غير مُجْدٍ، وأن «هذه العملية من صلاحيات المركزي».

العناني يقول إن: «البنك المركزي يؤثر في أسعار الفائدة في السوق المصرفية بشكل غير مباشر، بتعديل أسعار الفائدة الرئيسة على أدوات سياسته النقدية (سعر إعادة الخصم، سعر نافذة الإيداع، وسعر إعادة شراء شهادات الإيداع)، وعبر عمليات السوق المفتوحة المتمثلة في بيع شهادات الإيداع بالدينار».

لكنه يستدرك متسائلاً: «ما جدوى هذه السياسة في حالة لم تستجب البنوك لإجراءات البنك المركزي وتعليماته؟». ويضيف: «يلاحَظ أنه عندما كان البنك المركزي يسعى لتخفيض أسعار الفائدة، فإن البنوك كانت تخفّض أسعار الفائدة على الودائع بسرعة أعلى من تخفيضها لأسعار الفائدة على التسهيلات، الأمر الذي يؤدي إلى اتساع الهامش بين أسعار الفائدة المدينة والدائنة».

فريز يؤكد أن الاستقرار النقدي متحقق في البلاد، قاصداً بذلك «استقرار المستوى العام للأسعار، واستقرار سعر صرف الدينار، وتوفير هيكل أسعار فائدة ملائم». لافتاً إلى أهمية هذا الاستقرار في جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية، التي تعدّ «المحرك الرئيس للنشاط الاقتصادي».

مطالبات بدور أكبر لـ«المركزي» في الإصلاحات السياسة النقدية بعد 45 عاماً: تحولات بين التدخل والتحرر
 
01-Oct-2009
 
العدد 4