العدد 4 - الملف | ||||||||||||||
اعتقالات، ضرب بالهراوات، وتسبُّب بإصابات بعضها خطير.. تلك هي الطريقة التي تعاملت بها الحكومة مع عدد من الاعتصامات التي أقيمت خلال الأشهر الأخيرة. فقد قمعت قوات الدرك بعنف اعتصاماً أقامته النقابات المهنية في تموز/يوليو الفائت احتجاجاً على استيراد فواكه وخضار من المستوطنات الإسرائيلية، وقمعت في الشهر نفسه اعتصام عمال موانئ العقبة، بعنفٍ وصل حد التسبب بكسر جمجمة أحد العمال المعتصمين. بصورة أقل عنفاً، فرقت قوات الدرك اعتصاماً نظمه أمام رئاسة الوزراء مجموعةٌ من أهالي الطيبة في الكرك خلال تموز/يوليو الفائت أيضاً، لانقطاع المياه عن منازلهم لمدة شهرين. العنف الذي مارسته الحكومة حيال اعتصامات سلمية، يثير التساؤل حول مشروعيته، فالدولة التي مُنحت وحدها، كإطار سياسي حديث، حقَّ استخدام «العنف المشروع»، مُنِحَتْهُ في الواقع كي تحمي به أفراد المجتمع، لكنها في الحالات السابقة استخدمته ضدّهم. وهو أمرٌ بحسب عالم الاجتماع باقر النجار، يسحب صفة الشرعية عنه. يرى النجار أن «عنف الدولة المشروع مباح بضوابط»، وهي ضوابط تشكل ضماناً بأن يتم توظيف العنف من جانب الدولة لـ«لضبط نزاعات المجتمع»، وليس لـ«عقاب المختلفين معها»، أو «إخافة الآخرين». المفارقة أن الحكومة في الوقت الذي طبقت فيه سياسة العنف تجاه أفراد طالبوا بحقوقهم الأساسية متّخذين الاعتصام السلمي وسيلةَ احتجاج حضارية، استخدمت بحسب الكاتب الصحفي فهد الخيطان، سياسةَ «الاحتواء» في تعاطيها مع احتجاجات أخرى حدثت في الفترة الزمنية نفسها واتخذت الطابع العشائري. تلك الاحتجاجات اتخذت شكل أعمال الشغب وتدمير الممتلكات، كما حدث في الطيبة بمحافظة إربد في حزيران/يونيو الفائت، عندما اندلعت اشتباكات مسلّحة بين عشيرتَي القرعان والعلاونة في البلدة إثر مقتل شاب من العلاونة، وهي اشتباكات استُخدمت فيها الأسلحة الرشاشة. وحدث أيضاً في أحداث الشغب التي اندلعت في عجلون بين عشيرتَي الصمادي والمومني في آب/أغسطس الفائت، إثر مقتل شاب من عشيرة المومني، إذ قام أفراد من الجانبين بعمليات متبادلة لإحراق الممتلكات والمزروعات وتدميرها. الغريب أنه وإزاء هذه الخروقات للقانون، اقتصر دور الحكومة على إنزال قوات أمنية لحفظ الأمن في المنطقة، وتسيير «جاهات» للفصل بين المتنازعين. في حادثة عجلون مثلاً، فإن الأشخاص الذين أُلقي القبض عليهم وثبت تورطهم في أعمال الحرق والتدمير وعددهم نحو 30 شخصاً، أُطلق سراحهم جميعاً، بحسب مصدر حكومي مطلع شدّد على عدم ذكر اسمه. وبحسب المصدر نفسه، لن تكون هناك أيّ ملاحقة قانونية لهؤلاء. أما الخسائر، فقد أفاد مصدر من داخل مدينة عجلون طلب أيضاً عدم ذكر اسمه، أن اتجاهاً قوياً يسير نحو أن تقوم الحكومة بتعويض المتضررين. الخيطان يرى أن هذه المفارقة تعكس نمطاً تقليدياً في التعاطي الحكومي مع الاحتجاجات. «عندما يتعلق الأمر بمطالب سياسية أو مطلبية، فإن الحكومة تعرف أن بإمكانها قمعهم وتظل الأمور مع ذلك تحت السيطرة، لأن مثيري هذه الاحتجاجات لا يتمتعون في العادة بقاعدة اجتماعية عريضة، لكن حسبة مثل هذه لا تنطبق على العشائر، لهذا تلجأ الحكومة معها إلى تسويات عشائرية بدلاً من تطبيق الإجراءات الأمنية». ينتقد الخيطان غيابَ ردع حقيقي لمن يخرقون القانون في أحداث الشغب، ويؤكد أن ذلك يشكل «ارتداداً عن خطة الإصلاح السياسي، ويوصل رسالة مفادها أن المواطن يمكنه أن يتجاوز على القانون ويفلت بذلك». وهو أمر يوافقه عليه رئيس مركز حماية حرية الصحفيين نضال منصور، الذي يرى أن الدولة تدفع الآن ثمن سياسة كُرّست لوضعٍ لن تستطيع بين ليلة وضحاها تغييره. هذه السياسة التي سمحت بتنامي سطوة العشيرة على حساب دولة القانون والمجتمع المدني، وهي سطوة تجلت في أحداث عجلون الأخيرة، عندما «طرحت العشيرة علناً مطالب مخالفة للقانون، وتشددت فيها، وعندما تمكنت الحكومة من إقناعها والتوصل معها إلى تسوية تم بموجبها توقيع صك عشائري، صُوّر ذلك من جانب الإعلام وكأنه نصر مؤزر أحرزته الحكومة». المصدر المطّلع اعترف بأن الطريقة التي تتعاطى بها الحكومة مع أعمال الشغب العشائرية لا تقضي على أعمال الشغب في جذورها، بل تفتح المجال لغيرها، لكنه قال إنها الطريقة الوحيدة، نظراً إلى «تركيبة المجتمع الأردني»، وأضاف أن ما «تقْدر» عليه الحكومة الآن، وما تتوسع فيه فعلاً، هو العمل الاستخباراتي الوقائي. «نحاول الوصول إلى أماكن تواجُد السلاح ومصادرته، ونحاول التواجد عند الشعور بأن هناك خلافاً عشائرياً يمكنه أن يتطور، فنتدخل لمنع انفجار الأمور». مع ذلك، فإن هناك من يرى في تفسير العنف ذي الطابع العشائري و«تراخي» الدولة في مواجهته على أنه تغوّل من العشائر على دولة فقدت هيبتها أمامهم، تبسيطاً لمسألة معقدة، واختزالاً لها في بُعد واحد، في حين أن لها أبعاداً أخرى، بخاصة وأن خللاً بدأ يشوب العلاقة التقليدية بين الدولة والعشائر التي فقدت في السنوات الأخيرة، كما يقول الخيطان، الكثير من امتيازاتها التقليدية. «صحيح أنه ما زال للعشائر حصة من الدولة، لكن الأمور لم تعد بالنسبة إليهم كالسابق، والدليل على ذلك أن كثيراً من الاحتجاجات التي قام بها أبناء عشائر كانت للمطالبة بحقوق أساسية، وآخرها ما جرى في عرجان احتجاجاً على انقطاع المياه». الكاتب الصحفي إيراهيم غرايبة، يعتقد أن الدولة فقدت هيبتها فعلاً، ولكن بسبب ما اتّبعته من سياسات خاطئة تمثلت، كما يقول، في التحالف الذي عقدته مع القطاع الخاص ضد الشعب. «عندما تسمح الحكومة ببيع السلع بأضعاف كلفتها الحقيقية، وعندما تمنح شريكاً سرياً لمصفاة البترول عقدَ احتكار لها، وتعطيه حق التسعير، وتعفيه من الضرائب، عندما تفرض الضرائب على الفقراء، وتعفي منها الأغنياء، فإن النتيجة الطبيعية هي هذه الحالة من الاحتقان الجماعي التي تعبّر عن نفسها بالعنف». غرايبة أحد أبناء عجلون، وعايش الأحداث الأخيرة فيها، يدلل على فكرته بقوله إن «الخلاف يبدأ فعلاً بين أفراد من عشيرتين، ولكن من ينزل بعدها إلى الشارع ويقوم بأعمال الشغب هم، في الغالب، شبان متعطلون عن العمل، فقراء، مهمشون، يقوم بها أشخاص يشعرون أن حقوقهم مهدورة، وشغبهم هو ردة فعل على إحساسهم بالظلم، وليس على الحادثة مصدر الخلاف». ما ذهب إليه غرايبة يؤكده مصدر أمني طلب عدم الكشف عن اسمه. يقول: «ليس صحيحاً أن كل ما يحدث من تخريب فورةُ دم، وإنما هو عملية تنفيس». وهي مسألة يحذر منها منصور: «الدولة عندما تمنع مواطنيها من التعبير عن أنفسهم بطرق سلمية، فإنها تدفعهم إلى اللجوء إلى طرق عنيفة وبعيدة عن التزام آداب الحوار». مفارقة أخرى يلتقطها من يرصد المشهد، هي أن التكلفة التي تتحملها الحكومة إزاء مواجهتها العنيفة للاعتصامات أكبر مما لو تركت الاعتصام يمر بسلام، أو حتى لو أنها لبّت المطالب. ففي ما يتعلق بالتكلفة الاقتصادية، فإن اعتصام عمال العقبة مثلاً، قُدّرت خسائر الميناء خلال أيام الاعتصام بعشرين مليون دينار، لكن التكلفة السياسية في رأي منصور هي أيضاً باهظة الثمن، عندما يتم الترويج لصورة الأردن بوصفه «بلداً ريفياً يمنع الناس من حقهم الأساسي في التعبير عن أنفسهم، وهي صورة يحتاج تعديلها إلى سنوات، بخاصة وأن المساعدات التي يتلقاها الأردن من الخارج مربوطة بشكل أساسي بتنفيذه لأجندة حقوق الإنسان». أوساط داخل الحكومة ليست غافلة عن هذه النقطة، وبحسب مصدر مطلع، فإن حواراً يدور داخل حلقات إدارة الدولة العليا في ما يتعلق بأسلوب التعاطي مع الاحتجاجات، ففي الوقت الذي يدفع فيه بعضهم تجاه قمعها، يرى تيار آخر ضرورة «التعامل بذكاء» معها. |
|
|||||||||||||