العدد 4 - الملف | ||||||||||||||
تُعِدّ الأجهزة الأمنية الأردنية العدّة لنهج جديد في ضبط أنغام مدرجات كرة القدم في البلاد، بعد أن ازدادت مؤخراً وتيرة «نشاز» تفوح منه رائحة عنصرية إقليمية، على وقع سياسات رسمية ومؤسسات مجتمع مدني «عاجزة» عن التأثير في الجماهير الجامحة. يكمن العبء الأكبر بالنسبة لقوات الأمن في الملاعب في مباريات قطبَي كرة القدم الأردنية: الفيصلي، الذي يُنظر إليه كحاضنة رياضية للشرق أردنيين؛ والوحدات، الآتي من مخيم للاّجئين فلسطينيين يحمل معظمهم الجنسية الأردنية. تقفز مواجهات المدرجات عن حدود التعصب الرياضي المتعارف عليه في ملاعب العالم، لتتعداها إلى أبعاد سياسية وإقليمية، في المملكة التي يقطنها نحو ستة ملايين نسمة، نصفهم تقريباً من أصل فلسطيني. ففيما يتنافس لاعبو الفريقين على «المستديرة» داخل المستطيل الأخضر، يتواجه مئات من جمهوريهما على المدرجات بشتائم على خلفية إقليمية بدأت في الظهور مع بزوغ نجم الوحدات منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، مدفوعة بهواجس «الهوية الثنائية» التي باتت من أبرز معايير تصنيف مواطني المملكة منذ أحداث أيلول/سبتمبر 1970، وبصرف النظر عن هذا التصنيف أو خطئه. أكثر من 1500 فرد من وحدة أمن الملاعب التابعة لقوات الدرك، بعضهم بلباس مدني وآخرون بملابس رياضية، سيشاركون في ضبط إيقاع اللعب على المدرجات، في محاولة لكبح جماح المشجعين «المندسين»، بينما يشدد ساسة وصحفيون على أهمية اقتران الاحتياطات الأمنية بحملات لرفع الوعي لدى المشجعين حول أخلاقيات الملاعب ومبادئ الروح الرياضية وتقبُّل الآخر. كانت جماهير الفيصلي والوحدات عرقلت سير مباراة الفريقين في بطولة درع الاتحاد الأردني في 17 تموز/يوليو 2009 بـ: هتافات عنصرية، كرة حارقة، عبوات فارغة وأحذية قُذفت إلى أرض الملعب. هتافات جمهور الفيصلي طالت من وصفوهم بـ«الشعب الهامل» و«الفريق اللّي باع بلاده»، في إشارة إلى الغريم التقليدي الذي تأسس العام 1956 في مخيم اللاجئين الفلسطينيين الذي يحمل الاسم نفسه في العاصمة عمّان. كبير مشجّعي الفيصلي مازن البني تحدث عن «بعض ممن يصطادون في الماء العكر». «إحنا والوحدات أهل وصحاب وحبايب، وبهالبلد ما في فرق بين فلسطينية وأردنية»، قال البني لـ«ے». غير أن عضو مجلس إدارة الوحدات زياد شلباية انتقد الكلمات «النابية» التي خرجت من بعض جماهير الفيصلي، مؤكداً أن ناديه قرر سحب الفريق من أي مباراة تتكرر فيها الأحداث الأخيرة. وسط استياء النخب في المملكة وذهولها، أصدرت معظم أندية دوري المحترفين بيانات استنكار للهتافات «المسيئة»، فضلاً عن مقالات في الصحف وتصريحات شاجبة أدلى بها أعضاء في البرلمان، من بينهم طارق خوري، رئيس نادي الوحدات. أثارت هتافات مشجعي الفيصلي كذلك حفيظة رئيس الاتحاد الأردني لكرة القدم الأمير علي بن الحسين الذي استنكرها في بيان أكد فيه أن «مثل تلك الهتافات لا يمكن أن تمر دون إجراء رادع وحازم». «نؤكد أن المسيئين الذين تمكّنا بالتنسيق مع قوات الدرك من التعرف عليهم، وماضون في اتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم، سينالون الجزاء الذي يستحقونه»، قال الأمير في البيان، الذي أصدره بالتوازي مع قرار الاتحاد تغريم الفيصلي مبلغ 5000 دينار. التوجهات الجديدة لقوات الدرك جاءت لتنسجم مع تصريحات الأمير علي. المباريات المقبلة هذا الموسم ستشهد تواجداً أمنياً منوعاً. فإضافة إلى أفراد الدرك المنتشرين بلباسهم وعتادهم المعروف على المدرجات، سيتغلغل دركيون آخرون بلباس مدني بين المشجعين لمراقبة «المشاغبين» منهم، والتأكد من أشخاصهم، واللحاق بهم إلى خارج الستاد بعد نهاية المباراة والقبض عليهم «متلبسين، دون إثارة بلبلة»، بحسب المقدم عيسى العلاونة، الأمين العام للاتحاد الرياضي في قوات الدرك. يستمر كذلك أفراد من وحدة أمن الملاعب بالتواجد بالقرب من مقاعد البدلاء والمنصة الرئيسية، مرتدين ملابس رياضية وممسكين بعصي أصغر من تلك التي يستعملونها في الأحوال العادية، التزاماً بتعليمات الاتحاد الدولي لكرة القدم، يقول العلاونة. «هدفنا الرئيسي أن نعرف بالضبط من هم الذين يبدأون بالتحريض على الهتافات العنصرية»، يوضح العلاونة في حديث لـ«ے». انتهى العمل في تركيب كاميرات مراقبة في ستادَي عمان الدولي والملك عبدالله في القويسمة، ويجري تركيب كاميرات أخرى في كلٍّ من ستاد الحسن في إربد، وستاد الأمير محمد في الزرقاء، الذي احتضن مباراة الفيصلي والوحدات. ريثما ينتهي تركيب الكاميرات في جميع الملاعب، فإن أفراد الدرك يستعملون كاميرات محمولة لتوثيق أعمال الشغب والهتافات العنصرية التي يقوم بها «المندسون». منذ بطولة درع الاتحاد تموز/يوليو الماضي، بدأ جهاز الدرك في الاحتفاظ بسجلات مثيري الشغب، بهدف تحديد هوياتهم وتوفير قاعدة معلومات عنهم، لمنعهم من دخول الملاعب في المستقبل، بحسب ما يشرح العلاونة. يأتي هذا الإجراء على غرار ما تفعله دول أخرى للحد من مظاهر الشغب في الملاعب. فسجلات مثيري الشغب الإنجليز، مثلاَ، تُرسَل عادة إلى الدول التي تستضيف بطولات كروية عالمية يشارك فيها المنتخب البريطاني، حتى يتسنى منع هؤلاء من دخول المدرجات. ليست مباريات الوحدات والفيصلي فقط التي تشهد عنصرية إقليمية، مع أنها الأبرز كون الناديين يستحوذان على الشريحة الأوسع من الجماهير. فقد ألقى الدرك القبض على 15 من مثيري الشغب والهتافات العنصرية خلال مباراة الوحدات مع الرمثا على ستاد الحسن في إربد مطلع أيلول/سبتمبر 2009 على هامش بطولة شباب الأردن الثانية، كما قال العلاونة. مع أن شغب الملاعب «أعنف» في إنجلترا، وأوروبا بعامة، غير أنه ينبع من تحيز رياضي، ولا يتسم بالعنصرية التي تتكرر في الملاعب الأردنية، كما يرى رئيس المجلس الأعلى للشباب، عاطف عضيبات. «في بلدنا تكتشف أبعاداً لشغب الملاعب... وهي ذات طابع سياسي لا علاقة لها بكرة القدم»، يقول عضيبات لـ«ے»، في إشارة إلى الانطباع السائد حيال الهوية الإقليمية للناديَين. «هناك من يكرس هذه الصورة الشائعة لإثارة الفتنة»، وفقاً لعضيبات، الذي يضيف أن هذه الظاهرة هي امتداد لأحداث عنف شهدت تزايداً في البلاد في الآونة الأخيرة، إذ تتحدث تقارير يومية عن جرائم قتل معظمها بين أقارب، فضلاً عن مشاجرات قبلية تسببت في تطويق وإغلاق مدن وقرى بأكملها. يلفت عضيبات إلى أن الكثيرين في الأردن يعانون «إحباطات معينة وتوقعات وآمال وطموحات لا تتحقق»، فيلجأون إلى تفريغ هذه الضغوط في المدرجات الرياضية. الصحفية رنا الصباغ ربطت المسألة بالبعد السياسي ومخاوف أبناء الهويتين في الأردن من الشائعات التي تتحدث عن إمكانية حل القضية الفلسطينية على حساب الأردن وتوطين ما يقارب الستة ملايين لاجئ فلسطيني، ثلثهم يحملون الجنسية الأردنية، في المملكة. في مقالتها في صحيفة العرب اليوم، 26 تموز/يوليو، عقب المباراة الإشكالية، نصحت الصباغ ساسة المملكة ومسؤوليها أن لا يمروا مرور الكرام على «لعبة التراشق بهتافات عنصرية»، ودعتهم كي «يفتحوا وبجرأة ملف الفتنة الكروية بتشعباتها الداخلية المقلقة من أجل إيضاح الحقائق». «صحيح أنها ليست المرة الأولى التي تتبادل فيها فئتان من مشجعي الفريقين شتائم مهينة على قاعدة إقليمية ضيقة تمس الوحدة الوطنية الهشة... لكنها تؤشر إلى فشل السياسات المتعاقبة في بناء دولة القانون والمؤسسات الدستورية والمواطنة والتعددية»، تضيف الصباغ. الكاتب الصحفي محمد أبو رمان يوافق الصباغ على تحميل المسؤولية للدولة، بخاصة أن الحكومات المتعاقبة «كثيراً ما تعاملت مع الأمر بأسلوب الفزعة». غير أن أبو رمان يرى أن ظاهرة العنصرية في ملاعب الأردن لا تشكل باروميتراً للوضع السياسي في المنطقة، بل هي جزء من ظواهر العنف الاجتماعي القائمة أصلاً. صحفي فضّل عدم نشر اسمه، يرى أن الأردن الرسمي، بما فيه قوات الأمن، كثيراً ما فضّل الفيصلي وجماهيره على الوحدات، و«غاوز» مع الأول على حساب الأخير. فيما ذهب مسؤول رفيع إلى القول إن الفيصلي كان يُعَدّ في كثير من الأحيان «جزءاً من الدولة»، ويشجعه الكثيرون داخل دوائر الدولة العليا ومؤسسات الحكم والعشائر. وزير الدولة لشؤون الإعلام والاتصال والناطق الرسمي باسم الحكومة، نبيل الشريف، رفض اتهام الدولة بـ«المغاوزة»، أو تحميل الحكومة وحدها مسؤولية ما يحدث. «هذه مسؤولية مجتمع بأكمله... وأخطر ما في الموضوع هو إلقاء اللوم على جهة معينة»، قال الشريف لـ«ے»، مشيراً إلى أن الدولة تقوم بالتوعية ضد هذه الظاهرة عن طريق المدارس والمساجد والإعلام الرسمي. وزير الدولة للشؤون البرلمانية غالب الزعبي، الذي خدم في جهاز الأمن العام منذ 1969 وحتى بداية التسعينيات من القرن الماضي، يرى أن ظاهرة العنصرية الإقليمية بين جمهوري الوحدات والفيصلي بدأت بعد أحداث أيلول/سبتمبر 1970، حين اصطدم الجيش الأردني مع الفدائيين الفلسطينيين على أرض المملكة وبدأ الحديث عن «ثنائية الهوية» في الأردن. يقول الزعبي إن العنصرية على أساس إقليمي بدأت بالاتضاح شيئاً فشيئاً مع بزوغ نجم الوحدات في أوائل الثمانينيات. حينها بدأ سكان في المخيمات يشعرون بـ«النشوة» لوجود فريق من بينهم ينافس على الألقاب الكروية. قبلها كان الفيصلي، منذ تأسيسه في 1932، يتربع «وحيداً مدللاً» على عرش الكرة الأردنية، ويضم في صفوفه الكثير من أبناء ذوي الأصول الفلسطينية الذين ربطتهم صداقات بعشيرة العدوان، حاضنة النادي، والعشائر الأخرى الصديقة لها، وفقاً للزعبي. «قبل العام 1970، كانت الجماهير تأتي إلى الملعب من أجل الاستمتاع بالرياضة، لم تكن هذه الخلفيات الإقليمية موجودة»، يقول الزعبي في لقاء مع «ے»، مشيراً إلى أن الكثير من مثيري الفتن في المدرجات كان وما زال يُطلق سراحهم بعد توجيه التوبيخ واللوم لهم، بدلاً من تقديمهم للمحاكمة. «يبدو أن هناك تسويات كانت تحدث، ولا ينال الفاعلون جزاءهم». يذكر «الباشا» أنه عندما كان مديراً لشرطة العاصمة في بداية التسعينيات، أمر بحبس بعض من جمهور نادي مدينته، السلط، على خلفية هتافات إقليمية رددوها في إحدى المباريات، فعاد هؤلاء ليذكّروه و«يلوموه» برواية ما حدث على جدران المدينة حين ترشح لخوض الانتخابات البرلمانية العام 1997. في محاولة بدت تهدف إلى التصدي لظاهرة الإقليمية والتأكيد على الوحدة الوطنية، قام نادي السلط (درجة أولى) بتوقيع اتفاقية توأمة مع البقعة، القادم من مخيم للاّجئين ويلعب في دوري المحترفين، بمبادرة من الأخير. يخلص الزعبي إلى أن مبادرات حسن النية والإجراءات الأمنية الجديدة لن تجدي نفعاً دون مزاوجتها بتعزيز أسس المواطنة والتعددية، وترويج ثقافة الاستمتاع بالرياضة وفصلها عن تقلبات السياسة. فالوحدات سيبقى مسجَّلاً لدى اتحاد الكرة الأردني،حتى بعد قيام الدولة الفلسطينية المنشودة. |
|
|||||||||||||