العدد 4 - الملف
 

تكاد لا تخلو قرية في الأردن من انقسامات تعود في الغالب إلى فترة نشوئها، وظلت الانقسامات جزءاً من حياة القرى والعشائر المكونة لها وأوقفتها عند مستوى معين من التطور الاجتماعي الاقتصادي.

غير أن الحال تبدلت مع الزمن، ذلك أن كثيراً من تلك القرى تحولت إلى مدن وبلدات متفاوتة في الحجم والمساحة والكثافة السكانية، وبالتدريج تجاوزت المجتمعات المحلية في الغالب هذا التاريخ الانقسامي، بالتوازي مع تطور المجتمع واكتمال عناصر الدولة ودخول الناس في شبكة من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية تطلبت الانتقال نحو وضع جديد ذي انقسامات جديدة ومن صنف خاص، ليس بالضرورة أن تكون مبنية على أسس عشائرية أو مناطقية.

يصعب الجزم بأنه تم تجاوز كل أبعاد الانقسامات، فقد استمرت تطل برأسها بين فترة وأخرى وفي بعض المناسبات، ذلك أن بعضها كان عميق الجذور، لكن المهم أن الانقسام لم يعد حاضراً على الدوام، ولم يعد ضرورياً في حياة السكان، بل إنه في كثير من الأحيان صار جزءاً من الماضي الذي يطرحه الناس للنقاش المفتوح معاً، وقد يتهكمون عليه، كما تحولت بعض جوانبه وذكرياته وحكاياته إلى جزء من الفلكلور الخاص بكل قرية أو منطقة.

هكذا هو الأمر في مدن أصبحت اليوم كبيرة، مثل الكرك التي شهدت انقساماً تحت اسم «شراقا وغرابا»، والسلط التي شهدت انقساماً باسم «حارة وأكراد» ومعان التي انقسمت إلى «حجازية وشامية»، والرمثا إلى «زعبية وفلاحين».. ويمكن العثور على مثل هذه التقسيمات في أغلب القرى والمدن الأخرى.

بلدة الشجرة الواقعة إلى الشمال من الرمثا، لم تكن استثناء من هذه القاعدة الاجتماعية الطبيعية، إذ يعرف الناس فيها انقساماً إلى: «شبول وغُرْبية» (كلمة «غُرْبية» تُستخدم في كثير من القرى التي تقطنها عشيرة كبيرة إلى جانب تجمُّع من عشائر أصغر حجماً).

فقد ساد البلدةَ جوٌّ متوتر أثناء الحملة الانتخابية النيابية 2007، إذ تقدمت عشيرة الشبول بمرشح، بينما أيدت عشيرة الزعبية مرشحاً من الرمثا، وعندما أُعلِن عن فوز مرشح عشيرة الشبول وفي خضم التوتر والفوضى دهس سائقٌ من عشيرة الزعبي أحد أبناء عشيرة الشبول الذي توفي على الفور، ورغم أن التحقيقات لم تثبت القصدية في الدهس ولم توجّه تهمة القتل العمد أو القصد، إلا أن الحادثة تطورت إلى مشاجرة جماعية استمرت بشكل متقطع أشهراً عدة، واشترك فيها عدد من المواطنين من أعمار مختلفة.

لغايات الإحاطة بالحادثة، لا بد من التعرف على السلوك الانتخابي للناس، بحيث تمكن الإجابة عن سؤال: لماذا ارتفعت وتيرة الخلاف في تلك الانتخابات بالذات؟

بلدة الشجرة جزء من لواء الرمثا الذي يضم بالإضافة إلى مدينة الرمثا خمسَ قرى مجاورة، وقبل انتخابات العام 1989 كان لواء الرمثا يتبع لمحافظة إربد التي كانت دائرة انتخابية واحدة، وقد جرت انتخابات تكميلية العام 1984 مثلاً، وكان الناس يقولون إن من يريد خوضها، عليه أن يكون مستعداً للتحرك «من الغور حتى الأجفور».

في العام 1989 تم فصل دائرة الرمثا وبني كنانة عن دوائر محافظة إربد، وكان على المرشح أن يتحرك بين لواءي الرمثا وبين كنانة حيث توجد العديد من القرى، ولم يكن هناك فائدة أو ضرورة لاستحضار أي خلافات بهدف جلب الأصوات أو منعها عن منافسين.

انتخابات العامين 1993 و1997 أجريت وفق الصوت الواحد، غير أن اللواءين بقيا معاً وخُصّصَت لهما ثلاثة مقاعد، وكان على المرشح أن يوسع دائرة تحركه وحملته، ولم يكن تقليص دائرة الانتماء مفيداً للمرشحين.

في العامين 2003 و2007 تجلت مفاعيل تقسيم الدوائر والصوت الواحد بشكل كامل، واتضحت نتائجهما على الصعيد الاجتماعي، فقد تم فصل لواءي الرمثا وبني كنانة كلٍّ في دائرة خاصة بمقعدَين لكلٍّ منهما.

يتركز الحديث هنا على تداعيات هذا الإجراء في حالة الرمثا، مع أن لواء بني كنانة شهد الظواهر نفسها. لقد وجدت كل مجموعة نفسها أمام سؤال: لماذا لا يكون النائب منّا؟

يتعين التذكير بتسمية شهيرة في تلك المنطقة، حيث يُقسم اللواء إلى: الرمثا من جهة، و»الناحية» التي تضم بقية القرى شمال الرمثا من جهة أخرى، وهي تسمية قديمة تعود إلى بدايات القرن الماضي «ناحية الرمثا»، وفي الانتخابات ما قبل الصوت الواحد وما قبل تقسيم اللواءين، كان الناس يتوقعون أن فرص النجاح من نصيب مرشحي مدينة الرمثا، الذين كانوا يبحثون عن تحالفات وأصوات من القرى المحيطة.

بعد قانون الصوت الواحد، وبعد اقتصار الدائرة الانتخابية على لواء الرمثا وحده، نشأ سؤال جديد: لماذا لا يكون النائب من خارج الرمثا أيضاً؟ وبالتوازي طرحت أطراف كثيرة من العشائر في الرمثا السؤال نفسه: لماذا لا يكون المرشح منّا؟ وفي قرى «الناحية» طُرح السؤال على مستوى كل قرية: لماذا لا يكون النائب منا؟ وفي داخل كل قرية طرحت كلٌّ من العشائر المختلفة المطلب نفسه.

في انتخابات 2007 أيّدت عشيرة الزعبية في الشجرة مرشحاً من زعبية الرمثا، سعياً إلى تقليل فرص مرشح العشيرة الكبيرة الشبول. وبمجرد الإعلان عن فوز مرشح الشبول، حدث هيجان كبير كانت نتيجته أن دُهس أحد الأفراد من عشيرة الشبول بسيارة يقودها شخص من الزعبية، فزادت تلك الحادثة من منسوب التوتر الناتج عن الانتخابات.

بعد مشاجرات واعتداءات متبادلة، وعجز قوى الأمن عن السيطرة على الموقف، تدخلت الوساطات، لكن ما يُثبت الجذر الانتخابي للمشاجرة أن النزاع لم يتعدَّ بلدة الشجرة إلى الرمثا مثلاً، رغم وجود تجمّعات من هاتين العشيرتين فيها، بل إن فريق الوساطة بين طرفَي المشاجرة تألف من أشخاص من عشيرة الزعبية في الرمثا وبقبول من الطرفين، وبترحيب أكبر من عشيرة الشبول، كما أن عشيرة الشبول في الرمثا لم تعدّ نفسها جزءاً من المشكلة.

عُقد الصلح وفقاً للأصول المتبعة في مثل هذه الحالة، بعد جولات نقاش طويلة تخللتها مشاجرات فرعية هنا وهناك، غير أن ثأراً انتخابياً قد نشأ على المستوى الاجتماعي يمكن بدرجة كبيرة إرجاعه إلى تداعيات أو تطبيقات قانون الصوت الواحد والدوائر الانتخابية الصغيرة، فالنزاعات العشائرية على العموم فقدت مسبباتها المادية، الاقتصادية والاجتماعية، لكنها تعود، وبقوة أحياناً، على مستوى التمثيل السياسي بوصفه مؤشراً على الحضور.

أحداث الشجرة: الصوت الواحد وتقليص الدائرة الانتخابية يؤسس لثارات
 
01-Oct-2009
 
العدد 4