العدد 4 - محلي
 

شكلت أحداث العنف الجماعي التي تشهدها البلاد خلال صيف 2009، صدمة لكثير من شرائح المجتمع، وساد توجس بأن هنالك مرحلة لا بد من التعايش معها في غياب القانون والنظام، من سماتها البحثُ عن وسائل وأطُر يمكن أن تمثل حماية أو سنداً لنيل حقّ ما.

هذه الأحداث فتحت باب الحوار، وأثارت أسئلة من أبرزها: هل نحن إزاء ظاهرة مرحلية، أم نمط يتكرّس؟ هل سيصبح حفظ النظام والأمن مهمة أفراد وجماعات؟ أين الدولة من هذه القضايا والأحداث، وما دورها في المستقبل؟

أسوةً بكثير من الحوارات التي تجري، شهدَ الحوار حول الظاهرة انقساماً سريعاً بين وجهتَي نظر: دفاعيةٌ متركزة عند مسؤولين، تؤكد أن ما جرى من أحداث ليس جديداً على البلاد، ولا ينبئ بميلاد ظاهرة جديدة. وأُخرى ترى أن ما يجري هو نمط جديد وفاتحة لعلاقات جديدة بين المواطنين بعضهم ببعض، وبينهم وبين السلطات.

بذلك بدا الحوار وكأنه يتمركز حول حداثة الظاهرة أو قِدَمها، وكأن هذا الأمر؛ تكرارها في الماضي أو ميلادها في الحاضر، يبرر وجودها وغضّ الطرف عنها. والأصل أن ينصبّ الاهتمام على فهم مدلولات هذه الأحداث، وما تفرزه من أبعاد جديدة، واستشراف سيناريوهات تطوّرها المستقبلي. بل إن القول إن أحداثاً كهذه تتسم بأنها دائمة التكرار هو، في جوهره، اعتراف وإدانة بأن الدولة لم تنجز مهامها في بناء مؤسسات حديثة خلال العقود الستة الماضية.

فقد كشفت الأحداث الأخيرة أن طبيعة العلاقة بين الدولة والمواطن قائمة على غياب مفهوم المواطنة أو تغييبه، مقابل انتصار مفهوم توازن القوى والنفوذ بين التجمعات من ناحية، وبينها وبين الدولة من ناحية أخرى، وأن هذا المفهوم قادر على أن يكون فاعلاً وأن يصبح سائداً في مجالَين حيويَّين هما: تنفيذ القانون وتطبيقه، واستخدام القوة والعنف، وهما المجالان المحتكَران من جانب الدولة ضمن مفهوم التعاقد بينها وبين المواطن.

فما جرى على مدى أكثر من عقدَين في مجالات تحقيق مكتسبات وظيفية أو خدمية، وبلورة قيادات سياسية بآليات تَوازُن القوى والمحاباة والاسترضاء، التي عبّرَت عن نفسها بالعودة إلى أطر اجتماعية تقليدية لتقوية فرصها في الانتخابات وفي الحصول على وظيفة أو الفوز بمقعد جامعي.. هذه العملية اتخذت بعداً جديداً عندما أصبح المواطنون أفراداً وجماعات، ينافسون الدولة على مهامها التي احتكرتها لنفسها، أي تنفيذ القانون (من وجهة نظرهم) بأيديهم، واستخدام القوة والعنف عندما يطيب لهم. وهو أمرٌ يعكس تدني الثقة بقدرة الدولة على تنفيذ هذه المهمات، أو عدم قدرتها على تحقيق العدالة أثناء التنفيذ، وينبئ بأنها ستدخل في تنافس مع المجتمع لاستعادة احتكارها لتنفيذ القانون واستخدام العنف.

التاريخ الشفوي والمكتوب، من أمثالٍ شعبية وإرث ثقافي وشخصيات مؤسطرة في أزمان مضت، يجري استنهاضه من جانب الأفراد والجماعات، لتوفير مبرر أخلاقي لنيل الحقّ. الأهم من هذا أن لدى الناس مخزوناً كبيراً من قصص وأحداث معاصرة ومتكررة تفضي إلى أن الدولة رضخت لمطالب جماعات وأفراد، وأنها لم تكن فعالة ولم تتسم بالعدالة.

عدم الثقة في الدولة أو بعدالتها، ورضوخها لمطالب على هذه الشاكلة، مرتبط أيضاً بفعالية تعاملها مع الأحداث الأخيرة. فهي لم تؤدِّ دورها الأساسي في المبادرة في التعامل مع الأحداث، وظلت كفاءتها موضعَ تساؤل. فالأفراد والجماعات برهنوا أنهم أسبق من الدولة في وضع أجندتهم، وفي فرضها وتنفيذها. والحالات التي حاولت الدولة أن تكون فيها سريعة التعامل مع بعض الأحداث، كشفت عن عدم توفُّقِها في المعالجة. أي أنها تطرفت في معالجة بعض الأحداث، فأصبحت كما لو أنها منساقة راضخة لمطالب الأفراد والجماعات (كما تبينها العطوات)، وأحياناً أفرطت وأساءت في استخدام القوة، فأصبحت أداةَ بطش. كما لم تُظهر الدولة فاعلية تُذكَر حتى في التعامل الإعلامي مع هذه الأحداث، فالإعلام يتابع الأحداث ويقدم التحليلات، فيما كانت الدولة غائبة عن المشاركة في تقديم روايتها أو رؤيتها، أو تصورها للخروج من الأزمة.

في مجتمعٍ الأطرُ المدنية والسياسية فيه ضعيفة، احتلّت مكانَها أطرٌ وروابط تقليدية عشائرية وغير طوعية، فإن أسلوب التعامل مع المجتمع في إطار توازن القوى في العلاقة بين الدولة والمواطنين، وبين المواطنين بعضهم ببعض، طريق تفضي دائماً إلى تفكيك فوضوي وممنهج للمجتمع، بتكلفة إنسانية باهظة الثمن. سيادةُ القانون وتنفيذه، والتمتع بالأمن والنظام، يمثلان للمواطن والدولة في الأردن ميزة تنافسية إقليمية ودولية، لذا فإن التعامل الارتجالي غير الممنهج مع تلك الأحداث، يكاد يعصف بمثل هذه الميزة.

توازن قوى أم دولة قانون؟ استشراء العنف يهدّد بتفكيك المجتمع
 
01-Oct-2009
 
العدد 4