العدد 4 - مساحة حرّة
 

سلطة الدولة غير مزاجية، أو هكذا ينبغي أن تكون. لكن الأمثلة على انتقائية فرض هيبة الدولة ليست بالقليلة. ولا يقتصر الأثر الناتج عن هذه الانتقائية على خلق الخصوم وتعزيز الخصومات داخل النخبة السياسية، وإنما يتعداه للمساهمة في تشكيل رأي عام غير إيجابي تجاه الدولة بشكل عام والحكومة بشكل خاص. كما أن خلق الخصوم السياسيين الجدد في حالة يشوبها الاهتراء السياسي على مستوى أطراف المعادلات السياسية الداخلية، وغياب أطر سياسية تنافسية تنظم العلاقة بين الحكومة من جهة، ومن يختلف مع سياساتها من جهة أخرى، يقود إلى حالة عامة من العبثية السياسية التي لا تساعد على ترسيخ قيم المساواة والعدالة وسيادة القانون بين المواطنين. مثل هذه الحالة تؤدي إلى تراجع الثقة العامة بمؤسسات الدولة، أو عدم تقدمها على أقل تقدير.

الدولة هي التي يُفترض أن تحتكر سلطة استخدام القوة والعنف تنفيذاً للقانون المتفق عليه بين الناس كمنظم للعلاقات داخل المجتمع، وبين الدولة والمجتمع، وبين الأفراد والدولة كذلك. لكن انتقائية استخدام هذه السلطة تترك فئاتٍ اجتماعية في مجال الاغتراب داخل الدولة والمجتمع من جهة، ولا تساهم كثيراً في ترسيخ مفهوم المواطنة والمساواة والعدالة بين المواطنين. حالة البعد عن مفهوم سيادة القانون التي تجلّت في العديد من الممارسات مثل إحساس بعض المواطنين بأن يأخذوا القانون، أو ما يعتقدون أنه حقهم، بأيديهم، وليس من خلال الأطر المؤسسية المتاحة، تعكس درجة من الإنذار لا يمكن أن يتم تجاوزها بلا وقفة متفحصة لمسيرة تطبيق القانون ومدى قناعة الناس بتراجع المفاهيم والأطر التقليدية في فضّ النزاعات لصالح مفهوم سيادة القانون المدني. ورغم أن الأغلبية من المواطنين تقول إنها تلجأ للقضاء في حالة حدوث نزاع، إلا أن هنالك نحو 15 في المئة من المواطنين البالغين قانونياً يفضّلون اللجوء لطرق أخرى، لأنهم يعقدون بأنها «أفضل» للوصول لنهاية للنزاع.

هذه الأرقام تعكس تطوراً كبيراً في موقف المجتمع من مفهوم سيادة القانون، إذ تراجعت حالات الفصل العشائري مثلاً في القضايا لمصلحة القانون المدني. ولا بد من أن تأخذ عملية التحول وقتاً ليس بالقصير كي تكتمل أو تشارف على الاكتمال. لكن انتقائية الدولة من جهة، وتعزيزها للأطر التقليدية في فضّ بعض النزاعات، يبعث برسائل مشوشة للرأي العام تجاه موقف الدولة من مفهوم سيادة القانون، وإن كان القصد هو الوصول إلى حل عملي وربما سريع لقضية مثل أحداث عجلون، إلا أن الرسالة التي يتلقاها المواطن هي أن المجال مفتوح لأطر موازية لدور القانون المدني العام. وهو الدور الذي ينيط بالدولة حق استخدام القوة لتنفيذ القانون.

تتمتع الدولة بقدرة فائقة على تطبيق السياسة العامة وفرض سلطة الدولة بما يتعلق بحقوق الجباية من «مُحدَّدي الدخل»، أي هؤلاء التي تعرف الدولة حجم دخولهم بالضبط، لكن هذه السلطة لا تتمتع بمستوى مماثل من الجدية عندما يتعلق الأمر بحماية الأفراد من تغوّل رأس المال أو إخضاع ممتلكيه لسلطة القانون لجهة تسديد الضرائب المترتبة عليهم «كاملة». وعندما يقرأ المرء هذه السطور ويفكر في من حوله سيخرج بقائمة ليست قصيرة، مقارنة بقامة الدولة، ممن لا يدفعون قسطاً وافياً من الضرائب التي ينبغي أن يدفعوها لخزينة الدولة أو ممن يتحايلون على دائرة الضرائب. ويستطيع كذلك أن يرى حجم التناقض في سلوك بعض ممن يُسمّون أنفسهم: «رجال الدولة»، أو الذين يعيّنون أنفسهم متحدثين باسم الدولة أو يحسبون أنفسهم عليها، بأنهم يزدرون القانون والخضوع له عندما يتعلق الأمر بمساواتهم مع الآخرين من المواطنين.

عندما تتباطأ الدولة في التدخل في الحد من استغلال التجار للمواطن وتتركه عرضة للنهش بغير وجه حق، كما هي الحال في احتكارات اللحوم الحمراء والحديد، وبالمقابل تفرض الدولة هيبتها بالتدخل السريع لتمرير سياسات محددة، بخاصة في ما يتعلق برفع أسعار المحروقات، وعلى عكس وتيرة الأسعار العالمية أحياناً، فإن نتيجة هذا السلوك تترك انطباعاً بأن الدولة ليست عادلة في ما يخص المواطن. وهي رسالة أخرى يتلقاها المواطن والرأي العام تفيد بانتقائية الدولة ومزاجيتها في تطبيق سياسات عامة متوازنة تنتج مجتمعاً أكثر توافقاً وأقل توتراً في أدنى الحدود.

ربما تكون الطريقة المثلى لتجاوز هذه الإشكالية هي إعادة إنتاج شكل العلاقة بين المواطن والدولة من خلال تطوير آلية لإنتاج حكومة برلمانية منتخبة تأتي عن طريق انتخابات حرة ونزيهة، وتأخذ بمبدأ التمثيل النسبي للقوة السياسية المتنافسة، وهو ما قد يريح الدولة من تعقيدات العلاقة مع المواطن، وإحلال روح المسؤولية الفردية محل العلاقة الاتكالية. ومن ناحية أخرى، ستصبح شرعية الفعل السياسي الذي تقوم به الدولة مكتسباً من خلال عملية انتخابية، وبذلك تتجاوز الدولة إشكالية الانتقائية في تطبيق القانون والسياسات العامة، لأن الشرعية السياسية تأتي من المجتمع للدولة وليس العكس.

انتقائية سُلْطة الدولة
 
01-Oct-2009
 
العدد 4